صراع الثنائيات.. بين الدين والعقل - محمد الفزاري



ثنائية “الدين والعلم” والصراع بينهما قد لا يختلف كثيرا عن ثنائيتي “النقل والعقل” و”العَلمانية والإسلامية/أو أي دين آخر” فلكل طرف فريق من الأنصار المتعصب مع وجود منطقة رمادية بين كلا الطرفين يمثلها الفريق الذي طالما حاول التوفيق والمصالحة بينهما والتأكيد على أن مقاصدهما لا تتعارض والمعنى الذي يؤمن به الإنسان لوجوده.

هذا الصراع لم يكن يوما محصورا على فئة معينة من الناس بل شمل كل فئاتها وعلى رأسهم الفلاسفة واللاهوتيين والعلماء. وهناك أديان طبيعة تكوينها وعقيدتها تدفع إلى التوافق أكثر من غيرها مثل البوذية من الأديان القديمة، والبهائية من الأديان الجديدة، وهناك العكس. والأدبيات البهائية زاخرة بالعديد من المقولات التي تؤكد على أهمية العلم بالنسبة للدين البهائي. وتنسب لعبدالبهاء عباس أفندي، الابن الأكبر لمؤسس الديانة من ضمن خطاباته في باريس سنة ١٩١١م مقولة حول علاقة العلم بالدين ويقول فيها: “الدين والعلم جناحان يطير بهما الإنسان إلى العُلا وبهما تترقى الروح الإنساني. فمن المستحيل الطيران بجناح واحد، فإذا ما طار الإنسان بجناح الدين وحده فسرعان ما يقع في مستنقع الوهم والخرافة، وإذا ما طار بجناح العلم وحده فسيقع في وهدة المادية التي تحول دون تقدمه”.

بيد أن تاريخ هذا الصراع يوضح بشكل جلي حجم التنازلات التي قدمها الدين لصالح العلم؛ لدرجة الجزم بعدم وجود أي دين من بين جميع الأديان بقي محافظا على شكله قبل قرن من الآن فما بالك قبل قرون من الآن. وهذا الانتصار الساحق دفع الكثير من أنصار فريق العلم أن يتنبؤوا بنهاية عصر الأديان أو الخرافة كما يفضل أنصار الفريق الأول تسميته. هل تحقق ذلك؟ طبعا لا، هل يحدث ذلك الآن؟ رغم ارتفاع نسب الإلحاد أو وعدم التدين بأشكاله المختلفة إلا أن الدين ما زال حاضرا بقوة ولاعبا اجتماعيا وسياسيا مؤثرا على مستوى العالم، وموجات اليمينية الدينية لا تكاد أن تختفي في دين معين إلا وظهرت في دين آخر.

من الصعب جدا الجزم بانتهاء الأديان يوما ما بشكل نهائي لسببين حيويين رئيسين، الأول يعود إلى طبيعة الإنسان بشكل عام في بعده الروحي أو غير المادي؛ حيث إن حاجة الإنسان لملء هذا الفراغ الذي يخلقه إحساسه بالوهن والخوف وقلة الحيلة تدفعه دوما إلى البحث عن ملاذ يلجأ إليه وقت الفزع وجدار يستند عليه وقت الضعف. بالإضافة إلى ذلك، السؤال الوجودي الذي لطالما سأله الإنسان: لماذا أنا موجود وما هو مصيري؟ لم ييأس الإنسان من البحث للإجابة عليه والأديان على رأس أهم تلك الإجابات التي توصل لها الإنسان. لهذا فالتخلي عن الدين عند المتدين هو انعدام المعنى والانتكاسة إلى العدمية. السبب الثاني يعود إلى طبيعة الأديان نفسها، فإن تركيبتها دائما ما تجعلها مرنة حتى عند تلك الأشد تشددا وصلابة؛ فيمكنها التغيير والمواكبة والملاءمة عن طريق دعائم يجدها العقل المتدين من داخل الدين نفسه مهما كان حجم ونوع الاختلاف والصراع الذي سبب هذا الدفع نحو التغيير.

واستمرارا لهذا التدافع والصراع المحتدم الذي لا يوجد أي مؤشر فعلي يؤكد على انتهائه قريبا، وأعني قريبا هنا بعد قرن من الآن؛ خصصت “مواطن” هذا العدد من المجلة ليكون حول ثيمة “الدين والعلم”.



محمد الفزاري – رئيس التحرير

تعليقات

المشاركات الشائعة