عدنان إبراهيم ومحمد شحرور.. ومشروع التنوير العربي - محمد الفزاري
المتابع للساحة الفكرية الإسلامية سيلاحظ وجود أربعة تيارات فكرية تقريبا سائدة في العالم العربي والإسلامي قد نجدها في كل المذاهب. الأول والأكثر انتشارا التيار السلفي أو التيار الديني التقليدي، ثم يليه تيار الإسلام السياسي الذي يتقدمه الإخوان المسلمون، ثم تيار القطيعة الناعمة أصحاب مشروعات تأويلية جديدة للأدبيات والمقدسات الإسلامية، وأخيرا تيار القطيعة التامة الذي يقوده مفكرون ملحدون ولاأدريون وربوبيون.
وفي العقد الأخير شهدت الساحة الإسلامية والعربية بشكل خاص ظهور عدة مشاريع أو محاولات نقدية للموروث الإسلامي التي اتسمت بالجرأة أحيانا والمسايسة في أحيانا أخرى اعتمادا على الظروف السياسية والاجتماعية التي وجد المفكر نفسه عالقا فيها مجبرا أو اختيارا. ورغم وجود عدة مشاريع تنويرية سابقة اتسمت بالعمق أكثر، إلا أن عدم توفر مواقع التواصل الاجتماعي وقنوات النشر الإلكترونية وخاصة المرئية حينها لم تحصل تلك المشاريع الكم والحجم من الانتشار الشعبي مثلما حضيت عليه المشاريع والمحاولات التنويرية المتأخرة.
رمضان المنصرم شهد مفارقة ملفتة حيث تم تغييب فيه عن الإعلام محاولة تنويرية تنتمي لتيار القطيعة الناعمة، قد تكون أقل تنظيرا وتأسيسا مقابل التجربة التنويرية الثانية تالية الذكر إلا أنها أكثر انتشارا وتأثيرا بسبب الإعلام الجديد الذي اعتمد عليه هذا المفكر في نشر أفكاره. في المقابل شهد ولادة إعلامية لمحاولة تنويرية تنتمي لتيار القطيعة الناعمة كذلك لكنها أقرب لتكون مشروعا لما تتميز به هذه المحاولة من أبعاد تنظيرية وتأسيس شبه مكتمل إذا لم يكن مكتملا امتد لأكثر من ثلاثة عقود عبر عدة مؤلفات. غابت هذا المشروع أو تم تغييبه عن الإعلام لسنوات طويلة بسبب فوبيا التنوير التي يقودها رجال الدين أو السلطة الدينية السلفية التقليدية ومن خلفهم اتباعهم من عامة الناس. وكذلك تم تغييب الأول للسبب ذاته، وكذلك قد يكون لأسباب أخرى سياسية رغم أن الحظ حالفه سابقا لبضع سنوات وفتحت له أبواب الإعلام الخليجية.
وبسبب ما حدث والضجة التي صاحبت تلك الحادثتين ارتأيت أن أركز فقط في هذه المقدمة القصيرة على هاتين التجربتين؛ إلا أن هنالك سببا آخر يكمن في عقلي الباطن سيتضح ذلك من خلال الأسطر القادمة. التجربة الأولى التي تم استبعادها من الإعلام الخليجي السعودي بالتحديد هي تجربة الطبيب د. عدنان إبراهيم. والجدير بالذكر أن عدنان إبراهيم قبل حادثة المنع أو التوقيف علق مادحا سياسة المملكة السعودية الجديدة التي يقودها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. وليس واضحا هل تصريحه سبق حادثة التوقيف مصادفة أم أنه كان فعلا استباقيا بعد ما وصلته نية توقيف برنامجه كمحاولة لكسب رضى السلطة. وسبب تصريحه حينها خيبة أمل كبيرة عند أنصاره ومتابعينه حيث عدوه تراجعا عن مواقفه السياسية السابقة التي صاحبت وتلت ثورات الربيع العربي.
وأرى أن عدنان إبراهيم رغم موسوعيته الثقافية وفصاحته وبلاغته التي لا ينكرها إلا مكابر متعنت؛ إلا أنه للأسف استسلم في منتصف الطريق وتنازل حتى عن مشروعه التنويري الذي كان يؤسس له وليس فقط انقلب على أفكاره الإصلاحية والثورية؛ فدينيا، انقلب سلفيا بعد ما كان أقرب إلى تيار القطيعة الناعمة، وسياسيا، انقلب جاميا بعد ما كان أقرب للخطاب الثوري الإصلاحي. والمتابع لعدنان إبراهيم منذ بدايته سيلاحظ الفرق الشاسع والبين بين خطابه السابق قبل سنوات وخطابه الحالي. وأزعم أني كنت من أوائل متابعينه في بداية ظهوره على اليوتيوب وقد تأثرت بخطابه حينها كثيرا حيث ساعدني خطابه النقدي في منحي الجرأة في إعادة التفكير حول قضايا كثيرة كان الاقتراب منها يعد تابوها، الذي جاء نتيجة وعي متراكم سبب نفورا حادا من أدبيات التيار التقليدي السلفي. لكن بسبب عدم توقف تساؤلاتي واتساعها واحساسي أن عدنان إبراهيم لم يعد يشفي تساؤلاتي تركت مشروعه واتجهت إلى مشروع آخر شعرت أنه أكثر منطقية وعقلانية حينها.
المشروع الثاني الذي رأى النور إعلاميا أخيرا هو مشروع المهندس المدني د. محمد شحرور. شحرور اختلفنا أو اتفقنا معه له مشروع عمل عليه منذ سنوات طويلة قام فيه على تفكيك المنظومة الفقهية القديمة وبناء أصول فقه جديدة. شخصيا، وجدت في مشروعه يوما ملاذا آمنا بعد شعوري بالضياع بعد تجربتي مع عدنان إبراهيم. بيد أنه كان أمانا مؤقتا؛ فبعد فترة وجدت مشروعه مجرد محاولة لمواءمة المقدس مع الواقع أيضا، مثله مثل أي مشروع آخر ضمن تيار القطيعة الناعمة إلى أن تركت الجمل بما حمل، إذ شعرت أنه أفضل تأويل وواقعية. بيد أنه يحسب ويقدر جدا لشحرور محاولته الإبداعية الشجاعة التي ميزته عن المحاولات التنويرية الأخرى ضمن نفس التيار.
في عالمنا الإسلامي والعربي بشكل خاص، نحن في أمس الحاجة لمثل هكذا مشاريع. إذ أنها تحاول لخلق حالة من الجدل، ليس من أجل الجدل فحسب، بل هي نتيجة طبيعية لأي مشروع جديد مختلف. وهذا سيساعد كثيرا في تحريك المياه الراكدة الآسنة التي خلفت وراءها جماعات إرهابية وواقعا متخلفا على جميع الأصعدة وأهمها إنسانيا. نحتاج فعلا إلى كل أنواع القطيعة سواء كان صاحب المشروع غايته إحداث قطيعة تامة لكن بشكل ناعم أو متدرج، أو غايته المواءمة والتجديد لا أكثر كقطيعة ناعمة، فقط قطيعة عن التأويلات الماضية لا أكثر؛ لو كنا نعني طبعا بالقطيعة هنا النتيجة النهائية للمشروع. نحتاج فعلا للقطيعة سواء كانت تامة أو ناعمة حسب أيضا الفهم الآخر للقطيعة هو طبيعة الاشتغال وتناول القضية بعيدا عن الهدف النهائي.
مع محمد شحرور وعدنان إبراهيم وكل المشاريع التنويرية الجديدة، لأنها الطريقة الوحيدة التي ستدفع بالفكر الإسلامي إلى نوع من الفاعلية المطلوبة في هذه المرحلة الحرجة من التاريخ، إذ أننا نكاد نكون في ذيل الحضارة البشرية بعد الردة النكوصية الصحوية التي أناخت بكلكلها على صدر الإنسان المسلم والعربي بالتحديد حتى لم يعد قادرا على رؤية مستقبله إلا في ماضيه المتضخم والمتكلس بالقدسية والكم الهائل من الأدبيات السلفية. المستقبل لمشاريع التنوير وهذه حتمية تاريخية وخاصة مشاريع تيار القطيعة التامة الذي يقوده مفكرون ملحدون ولاأدريون وربوبيون.
تعليقات
إرسال تعليق