بعد الملكية المطلقة أيهما نختار.. الجمهورية أم الدستورية؟ - محمد الفزاري



من الأسئلة التي أصبحت متكررة في الحوارات التي تتطرق لأنظمة الحكم في الخليج العربي، وأهم الاختلافات بينها: هل تؤيد النظام الجمهوري أم الملكية الدستورية بعد الملكية المطلقة؟ طبعا لا أحد يتحدث عن الملكية المطلقة لأنها باتت تقريبا مرفوضة حتى من قبل مؤيدي النظم الملكية ورافضي النظم الجمهورية. لأن الأنظمة المطلقة باتت تقابل في التوصيف في العلوم الإنسانية بالأنظمة الشمولية السلطوية (التوتاليتارية)، أو الدكتاتورية سواء كانت قائمة على نظام الفرد الواحد أم الحزب الواحد أو حكم الأقلية (الأوليغاركية).

هذا المقال سيستعرض دولة سلطنة عمان كمثال من خلاله سنحلل السؤال بهدف الوصول إلى مقاربة قد تساعد في معرفة الجواب الأنسب. بيد أنه قبل التطرق للشأن العماني سأذكر أبرز مثال في أنظمة الحكم الدستورية، مقابل مثال في أنظمة الحكم الجمهورية، ودون الخوض في كل التفاصيل التي لا يسعها هذا المقال، سأقوم بعمل مقارنتين بسيطتين بين التجربتين: أولا من حيث مبدأ العدالة التي يمكن أن تحققها كلا التجربتين على مستوى مواطني الدولة الواحدة، هذا لو تناولنا مبدأ العدالة في جانب أو إطار ضيق، وأعني هنا فرصة وصول المواطن لأعلى مستوى اجتماعي وما يلحقها بالضرورة من وضع سياسي ومادي. ثانيا من حيث سهولة التطبيق وقلة التضحيات التي احتاجها كلا المجتمعين للوصول لكلا التجربتين بنجاح. ففي الأول تتبادر إلى الذهن التجربة الدستورية في المملكة المتحدة، وفي الثاني طبعا تجربة الجمهورية الفرنسية. 

أولا، في التجربة الملكية الدستورية هناك أسرة مالكة تملك ولا تحكم، وتمارس مهام معظمها بروتوكولية بخلاف التجربة الجمهورية، إذ لا توجد أسرة مالكة كما هو معروف. ولو تناولنا هذا الاختلاف من منظور العدالة الاجتماعية في جانبها الضيق والبسيط فسترجح كفة الإيجابية عند التجربة الجمهورية؛ إذ لا توجد فئة من الناس يحملون وصفا ووضعا ملكيا من قبل أن يولدوا، يلحقه بالضرورة مستوى معيشي مغاير عن المواطنين الآخرين. 

ثانيا، رغم أن بداية ملامح التجربة الدستورية في المملكة المتحدة بدأت قبل حوالي 800 عام، بالتحديد في 15 يونيو 1215، عندما اضطر الملك جون إلى توقيع اتفاقية تعاقدية (الماغنا كارتا، Magna Carta أو الميثاق العظيم للحريات في إنجلترا) بينه والنبلاء والأساقفة لتحد من بعض صلاحياته وتنظم علاقته بهم، إلا أن تأثيرها كان محدودا في أرض الواقع، وخضعت لعدة مراجعات من قبل الملوك المتعاقبين. لكن قيمة الوثيقة تكمن في أسبقيتها والسياق التاريخي الذي طرحت فيه؛ فكانت حينها قفزة نوعية نحوية الملكية الدستورية. 

بيد أن التجربة الدستورية في المملكة المتحدة حسب شكلها الحالي تقريبا لم تترسخ إلا سنة 1689، أي فقط قبل ثلاثة قرون ونيف، عندما أصدر البرلمان "ميثاق الحقوق" (Bill of Rights) بجانب طبعا مواثيق أخرى تلتها لكنها تقل أهمية مثل "قانون التولية، Act of settlement، و"قانون البرلمان، Parliament Acts". وتكمن أهمية ميثاق الحقوق في أنها شملت جميع المواطنين الأحرار وليس فقط النبلاء كما حدث مع الماغنا كارتا. 

السؤال الأهم هل نضوج التجربة الدستورية في المملكة المتحدة ونجاحها كان بالأمر الهين على السلطة والشعب؟ طبعا الجواب هو النفي؛ فدائما الحقوق كما يقال تنتزع ولا تمنح، فما بالك لو كان هذا الأمر هو مشاركة السلطة صلاحيتها أو انتزاع أغلبها. فقبل صدور ميثاق الحقوق دخلت المملكة المتحدة في ثلاثة حروب أهلية بين الملك ومنازعيه السلطة من مؤيدي سلطة البرلمان، أو بعبارة أخرى بين الملكيين والبرلمانيين، أو بين السلطة والثوار. وامتدت الحرب الأولى بين عامي 1642 و1646، والثانية بين عامي 1648 و1649، والثالثة بين عامي 1649و 1651. انتهت الحروب الأهلية بانتصار البرلمانيين الذي مهد فيما بعد بصدور "ميثاق الحقوق". وهذا يعني أن الحرب الأهلية لم تستمر أكثر من 10 سنوات.

أما لو تحدثنا عن التجربة الجمهورية في فرنسا؛ فاستمر الصراع بين أنصار الملكية وأنصار الجمهورية منذ اندلاع الثورة الشهيرة سنة 1789 حتى سقوط الجمهورية الثانية باندلاع الحرب الفرنسية البروسية سنة 1870، أي قرابة 80 سنة. لكن لم ينتهِ الصراع حينها، ودخلت الجمهورية في صراع لم ينتهِ حتى قيام الجمهورية الخامسة 1959. وهذا يعني أن الصراع استمر قرابة 170 سنة حتى تخلصت فرنسا من الملكية بشكل كامل، وكذلك تخلصت من الصراعات الداخلية الأخرى لتصل إلى التوافق الشعبي وتستقر أركان الجمهورية، مع عدم تجاهل تأثير الحرب العالمية الأولى والثانية على هذه النتيجة وتوقيتها.

لا أريد الخوض في عدد ضحايا الصراع بين الملكيين والبرلمانيين في المللكة المتحدة وكذلك عدد ضحايا الصراع بين الملكيين والجمهوريين؛ لأنه من الصعب تحديد أرقام دقيقة، بيد أن طول فترة الصراع تعطي مؤشر واضح. وهذا يعني أن كفة الإيجابية تميل للتجربة الملكية الدستورية في المملكة المتحدة التي استقرت أركانها بأقل خسائر من الأرواح والفترة الزمنية.

نعود للشأن العماني لكن قبل ذلك وجب التفريق بين الجانب النظري اليوتوبي والجانب العملي الواقعي الكوسموبوليتي. نظريا، فإن كل إنسان سوي يحب العدل والمساواة سيفضل خيار الجمهورية بدل السلطنة -الملكية- الدستورية في عمان. لكن ماذا عن الواقع؟ 

الواقع يقول إن السلطة الحديثة في عمان منذ توليها الحكم عام 1970 حتى الآن لم تكن لديها نية وخطة استراتيجة مدروسة لتقويض الأعمدة التي تتكئ عليها القبلية والاختلافات العرقية مقابل تأسيس وإعلاء صوت المواطنة فوق كل صوت آخر. ما قامت به السلطة منذ توليها هو ترسيخ للقبلية لكن بما يتناسب مع ضمان بقاء قوة وتأثير القبيلة أقل من صوت السلطة. لهذا لم تحاول السلطة استبدال القبلية بالمواطنة قدر ما أضعفت توحد القبيلة الواحدة وقللت ولاءات أفرادها لأكثر من شيخ في القبيلة الواحدة باتباع سياسة "فرق تسد". فما زالت القبائل الكبيرة التي أسهمت في ترسيخ السلطة الجديدة بعد انقلاب القصر سنة 1970 سواء كان بالتأييد المباشر للسلطة أو عن طريق شراء ولاءاتها بالمال والتنازل للسلطة الجديدة؛ تتمتع بمتيازات خاصة من قبل السلطة تتفاوت بين المال والجاه. 

أيضا حتى وقت قريب لا يزيد عن 60 سنة قامت في عمان ثورتان كبيرتان امتدتا لسنوات، الأولى ثورة الجبل يقودها الإمام المنتخب، والثانية ثورة ظفار قام بها في البداية سكان الجنوب ثم توسعت لتشمل كل أرجاء عمان تقريبا. ولا نستطيع أن ننسى أيضا الإشكالات الموجودة في مسندم أو كما يفضل أبناؤها تسميتها بمنطقة رؤوس الجبال. أضيف أيضا الولاءات القبلية خاصة التي تقطن على حدود عمان التي تتجاوز الحدود الغجرافية العمانية.

وفي الحقيقة أن قرب تلك الصراعات زمنيا لا تضمن لنا عدم عودتها من جديد عن طريق إحياء الشعارات ذاتها التي رفعت سابقا، لا سيما كما ذكرنا أن السلطة قامت بكل ما قد يسهم بعودتها من جديد مثل تغذية القبلية، وعدم تكريس مبادئ المواطنة، وتزوير التاريخ المتعلق بتلك الصراعات وعدم التصالح معه. وهناك مؤشرات واقعية تعطينا مؤشرات واضحة لإمكانية إحياء تلك الصراعات من جديد، حيث لا يخفى على أحد دعوات إعلاء الهوية الظفارية على العمانية في جنوب عمان، كذلك مطالبات بانفصال إقليم ظفار عن عمان أو تطبيق النظام الفدرالي ومنح إقليم ظفار حكم محلي موسع. ويجب أن لا ننسى أيضا، أن دولة الإمامة متمثلة في الإمام المنتخب لم يعلن انتهاؤها رسميا؛ فالإمام مات في المنفى الاختياري ولم يعترف بالسلطة الجديدة ولم يعلن في بيان رسمي انتهاء دولة الإمامة.

إذن، هناك إشكاليات كبيرة لاسيما أيضا لو تحدثنا عن مستوى الوعي الشعبي السياسي، الغائب المغيب، تقف عقبة أمام سلاسة التحول السياسي في نوع نظام الحكم. ولا أعني هنا بالسلاسة التي تضمن لنا حجم تضحيات صفر %، ولكن تلك السلاسة التي يمكن مقارنتها بين خيار التحول من السلطنة المطلقة إلى الجمهورية و خيار التحول من السلطنة المطلقة إلى السلطنة الدستورية. 

وهناك مؤشر واضح حول غياب الوعي السياسي وهي انتخابات مجلس الشورى (البرلمان)؛ فما زال حتى آخر انتخابات جل من وصلوا للمجلس إذا لم يكن جميعهم وصلوا بالمال ودعم القبيلة. وفي ظل غياب الأحزاب والممارسة السياسة الميدانية هذه نتيجة طبيعية ومتوقعة. طبعا لا يمكن أن نغفل عن سببين آخرين أيضا وهما غياب الصلاحيات التشريعية والرقابية التي يجب أن يمتلكها كل برلماني لممارسة دوره المنوط به بالشكل الصحيح والمتعارف عليه في العمل البرلماني؛ وهذا أدى إلى عزوف الكثير من المؤهلين في خوض الانتخابات البرلمانية، لأنه لا يريد أن يكون مجرد دمية في برلمان بلا أجنحة. كذلك عدم وجود النية الصادقة من قبل السلطة في التنازل عن بعض من صلاحياتها الحالية من ضمنها التشريع؛ فمنذ انطلاقة المجلس سنة 1991 وحتى الآن ما زال مجلسا استشاريا، رغم انطلاقته المتأخرة جدا مقارنة بتاريخ بداية السلطة الجديدة.

في الحقيقة موضوع الصلاحيات يحوم في دائرة مفرغة، لأن السلطة رافضة حتى الآن التنازل عن الجانب التشريعي بحجة أن المجلس بأعضائه الذين يصلون في كل دورة غير مؤهلين، وهذا فعلا صحيح. لكن كما ذكرنا قبل قليل أن عدم وجود الصلاحيات هي إحدى العوامل التي أدت إلى عزوف من لديه المكنة والقدرة من المنافسة ودخول المجلس. بيد أن هناك جانبا مهما له علاقة مباشرة بشكل الممارسة الانتخابية في عمان -التي تقوم على دعامتين أساسيتين في فوز المرشح: المال والقبيلة- وهي طبيعة السلطة في عمان الشمولية التي تسيطر على كل مدخلات العقل الجمعي لدى المواطنين، من إعلام وتعليم وحتى مؤسسات المجتمع المدني المحدودة. إذن السلطة لها الدور الأكبر في ضعف الممارسة الانتخابية.

أعود لذات التساؤل المطروح في بداية المقال، هل يجب أن نؤيد النظام الجمهوري أم الملكية الدستورية كتحول منشود بعد الملكية المطلقة التي لا تواكب ومعطيات العصر من تطلعات وطموحات الشعوب في بناء الدولة الحديثة؟ استنتاجا من المقاربة المقتضبة التي تطرقنا لها، نحن بين طريقين: طريق المثل العليا دون النظر لجميع العواقب وحجم التضحيات وطريق إدراك الواقع وإمكانياته مع بعض التنازلات.. فأيهما نختار؟! بيد أن الجواب هذا يقودنا لسؤال آخر قد يطرحه البعض كحل مبسط لهذا الإشكال: بشكل عام هل الشعوب قادرة أن تتعلم من مجريات التاريخ وتسابق الزمن إلى التحول الديموقراطي بتضحيات أقل؟! لنفترض أن الجواب بنعم بحكم سرعة المعلومة وسهولة الوصول إليها في زمن الإنترنت ومواقع التواصل، هل الشعب العماني على سبيل المثال رغم كل الظروف التي سردانها في الأعلى ممكن أن ينطبق عليه الحال أيضا؟!



المشاركات الشائعة