قراءة: داعش بين الواقعية الكوسموبوليتية والتنظير الإسلاموي اليوتوبي - محمد الفزاري


مقدمة:

في البداية قبل الخوض في القضية التي أود عرضها، أرى من الواجب علي توضيح بعض النقاط بسبب حساسية الموضوع على الفرد المسلم. حيث تعود الفرد المسلم على قراءة وسماع كل ما هو جميل وبراق عن الإسلام ونفي كل ما هو مسيء له. أيضا بدون شك بسبب ترسخ نظرية المؤامرة في أذهان معظم المسلمين، حتى أصبحوا شديدي الحساسية من كل ما هو يحمل طابع النقد ولو أتى من الداخل. وسيكون هذا بمثابة اتفاق أولي بيني وبين القارئ. وكما يتضح من العنوان، استخدمت مصطلح “الإسلاموي” بدل الإسلامي للتفريق والتمييز بين الآيدلوجيات الإسلاموية التي يتبناها خط الإسلامسياسي والدين الإسلامي. وليس الهدف هنا التقليل من شأن وقيمة الدين الإسلامي بشكل مطلق. في الحقيقة هذا ما ينادي به الكثير من المسلمين عندما يحاولون التأكيد بعدم الخلط بين حقيقة الدين الصحيح ومنتسبيه من الجماعات الإرهابية الإسلاموية بشكل خاص والإسلام السياسي بشكل عام، كما يصرحون.

وهذا المقال ليس غرضه نفي أو تأكيد وجود التطرف في الأديان والطوائف الأخرى. وليس غرضه أيضا نفي أو تأكيد وجود أجندات استخباراتية خلف أي حادثة أرهابية، وحتى خلف ولادة أي مكون إرهابي إسلاموي. لأن كلا السياقين بعيد كل البعد عن قضيتنا الداخلية المحورية. فنقد الأول لا يعالج إشكالياتنا. ومناقشة الثاني والاستسلام لفكرة وجود المؤامرة على الإسلام والدول العربية ما هو إلا إلهاء يبعدنا عن أصل المشكلة. بيد، لو افترضنا جدلا وتجاوزا، أن كل عمل إرهابي خلفه مخطط استخباراتي، لا بد من وجود مفاتيح خاصة تُستخدم لفتح أبواب تلك الأجندة. وإحدى هذه المفاتيح “التطرف الإسلاموي”.

وبعيدا عن التعميم بدون شك، التحرر من الثنائية في نسق التفكير والأحادية المتطرفة في تبني المواقف وإطلاق الأحكام التي لها علاقة بالتنشئة وأساليب التربية والتعليم منذ الصغر، سواء كان في البيت أو المدرسة، يحتاجه البعض. وهذا ما لاحظته في مواقع التواصل الاجتماعي بعد التفجيرات الأخيرة في باريس. حيث للأسف سقط هذا “البعض” في مستنقع الثنائية والتحزب على مستوى قطبين، “هم” و”نحن”. وبدل النظر للموضوع من جانب إنساني بسيط أخذ كلا الفريقان التطرف في أحاديته وتشكيل مواقف وإطلاق أحكام بها الكثير من التعميم. هذه الأحادية تجاوزت حتى موضوع إقصاء الآخر في زاوية معينة ضيقة، فتجدهم يملكون أحادية خطية في مسار معين لا يتنازلون عنها حتى لو كلفتهم التنازل عن مبادئهم وشعاراتهم. ومع هذا أعتقد أن الجميع كان يقول الصواب بنسب متفاوته، لأن هذه هي طبيعة الحقيقة، مثلها مثل ألوان الطيف، قدر ما نراها متمايزة، تبقى متدرجة ومتصلة.

وبعد ذلك الخلاف أو الاختلاف، يعتمد على شخص المحاور، الذي حدث في مواقع التواصل الاجتماعي، سنحاول المقاربة وتحديد أهم منابع التطرف الإسلاموي من وجهة نظر شخصية، تحتمل الخطأ.

ما هي داعش؟ من هو الشخص الداعشي حسب التوصيف الجديد إعلاميا للإرهابي المتأسلم، أو المنتسب للإسلام كما يفضل البعض من المسلمين التوصيف؟ أرى أنه كائن مشوه بعقد نفسية جائت نتيجة عدة عوامل مرتبطة لا يمكن فصلها عن بعض. هذه العقد تدفع بصاحبها لأخذ منحى انفعالي لاشعوري للقيام بتصرفات غير واعية باتجاه الأسباب المكونة والمولدة لتلك العقد. وأرى أن جميع التنظيمات الإسلاموية التي ظهرت بعد الصحوة الإسلاموية تشترك في المكون نفسه. جميع منابعها متشابها التي يمكن حصرها في أربعة أسباب رئيسة:1- استبداد حكام العرب (الاستبداد الداخلي)، 2- استبداد الغرب على الشرق (الاستبداد الخارجي)، 3- طموحات عودة الخلافة الإسلامية المقدسة المزعومة، 4- الموروث الدموي في كتب التاريخ والسنة (والقرآن حسب فهم بعض الفرق الإسلامية). وطبيعة هذه الأسباب المكونة لظاهرة داعش المتداخلة مع بعضها التي يصعب فصلها سواء على مستوى التشخيص أو العلاج، سينعكس على طبيعة المقال كما سيلاحظ القارئ.






بين الواقع الكوسموبوليتي والتنظير الإسلاموي اليوتوبي


أليس الواقع يقول إن أوروبا لم تنهض حتى ظهرت المدراس الفكرية التي تجرأت وانتقدت الكتاب المقدس، العهد القديم والجديد، والكتب التاريخية المقدسة الأخرى، نقدا تاريخيا وفيلولوجيا؟! ورغم العواقب الكارثية التي صاحبت ذلك الخطاب على متبنيه، إلا أن تلك الصدمة آتت أكلها مع الزمن وأفرزت مدارس فكرية تنويرية أكثر إنسانية وأكثر مدنية وعلمانية وعالمية، وانعكس فيما بعد على المستوى العقل الجمعي؛ فوصل المجتمع لمرحلة الإيمان والاقتناع بحرية التعددية الدينية والمذهبية التي سبقت مرحلة ترسخ التعددية السياسية والمشاركة الديموقراطية.

ولهذا لا نتعجب لماذا لم تنجح الديموقراطية والنظم التي تدعي العلمانية في الأوطان العربية، بل في الحقيقة أدت إلى كوارث وتخلف وتراجع أكبر، على خلاف الملكيات التي سبقتها التي صنعت نوعا من النهضة على المستوى الحياتي على أقل تقدير، لو أخذنا على سبيل المثال الحالة المصرية آنذاك، وكانت من إحدى إيجابيات الاستعمار البريطاني الذي أتى -رغم أطماعه الرأسمالية- بمنهجية فكرية أكثر تمدنا كنتيجة طبيعية -كما أراها- لذلك المشروع التنويري الذي تربت عليه الأجيال في بريطانيا وبقية دول أوروبا الغربية.

وهنا يجب الإشارة إلى نقطة مهمة، ليس للتنوير علاقة بتلك الأطماع الاستعمارية كما يحاول بعض المنظرين الإسلامويين الطعن واهمين بأن هذا النوع من الطرح سيخدمهم وسيقربهم أكثر من حلمهم في مشروع الدولة الإسلامية. فالكثير يحاول أن يقف حجر عثرة أمام أي مشروع تنويري إسلامي بحجة أن التنوير لم يأت إلا بالإستعمار وكان سببا رئيسا للحروب العالمية. مع العلم أن جل ما يحيط بهم من إنجازات على جميع الأصعدة، سواء على مستوى العلمي أو الاجتماعي، ما هي إلا نتيجة لمشروع التنوير وما تلاها بعد ذلك من مشاريع. وهذا الإنجاز يكفي شرفا لمؤسسي فلسفته لمن يريد أن يكون منصفا أولا، والاعتراف برغبة الاستفادة ثانيا؛ فليست هناك علاقة نهائيا بين ما طرحه مؤسسو التنوير والأطماع الاستعمارية وما تلاها من حروب، التي أتت كنتيجة طبيعية لحكم القوي على الضعيف، القانون الواقعي الذي يسود العالم.

وهذا القانون أيضا يجب أن تفهمه الشعوب العربية لكي لا تستغفل من قبل مستبديها، بنظرية المؤامرة وتشغلهم عن المطالبة بحقوقهم، بحجة حماية أمنهم وثرواتهم من المتربّصين. لأن الواقع يقول ما زال العربي/المسلم يعيش خدعة المؤامرة الكونية التي يصورها الإعلام العربي الحكومي في أشكال ووسائل مختلفة من البروبجاندا، كأحد وسائل الإلهاء عن القضايا الكبرى الداخلية، والتجييش نحو فكرة وهمية غير موجودة واقعيا إلا في عقل مدبريها. وأرى أن الواقع العملي جدا مختلف؛ فقانون الغاب هو سيد الواقع، والدول القوية عتادا واقتصادا تسيطر بشكل مباشر وغير مباشر بالدول الأخرى الأضعف، وتبحث عن مصالحها حتى خارج حدودها الجغرافية، وحتى لو أدى ذلك إلى انتهاك سيادة وحرمة الآخر من الدول والأمثلة كثيرة والتاريخ يشهد. وآخر مثال على ذلك لو تناولنا الجانب الإعلامي من حقيقة الواقع، مدى النفاق الذي تعاني منه الوسائل الإعلامية الغربية نحو القضايا العربية والإسلامية! وهذا ما انتقده الكثير من المتابعين في مواقع التواصل، لكن هل هذا يعطينا الحق إنسانيا أن نصرح بكل سهولة ورضى: هذا ما اقترفته أيديهم، يأكلون مما زرعوا؟!

لذا عمليا، بدل تجييش الشعب نحو فكرة وهمية ليبقى أسيرا لها، لتأخذ السلطة راحتها متزعمة ذلك الشعب تحت وطأة الاستبداد وغياب العدالة الاجتماعية والرؤية الاقتصادية بحجة الممانعة والتصدي للمؤامرة، على الدولة الضعيفة أن تقوي نفسها من الداخل؛ فتعزيز فكرة المواطنة وقوة التعليم والإعلام وانتشار العدالة الاجتماعية ووجود رؤية اقتصادية هو أفضل دفاع وحماية لأي دولة من أي عدو متربص.

نظرية المؤامرة سمعناها اليوم، وبالأمس أيضا، في تفجيرات السعودية الأخيرة. ورغم أني لا أبرئ ساحة داعش أو إيران أو أي عمل استخباراتي آخر بالمطلق، وأقول بدون شك هناك احتمالات في ضلوعهما في التفجيرات. لكن في ذات الوقت، لولا وجود الأرض الخصبة لانتشار مثل هذه الأفكار الطائفية والإرهابية العفنة؛ لما استطاع العدو الخارجي بسهولة أن يتوغل بين النسيج السعودي، هذا لو افترضنا أن هناك عدوا خارجيا. من ينكر اللهجة التكفيرية الدونية التي يتبناها كل، وتجاوزا سأزعم هناك استثناءات، مشائخ الوهابية السلفية ضد مواطنين يحملون الجنسية نفسها والحقوق ذاتها، المواطنين الشيعة، أو الروافض كما يحلو لمشايخ الوهبية تسميتهم!

لذا في كل الاحتمالات الثلاثة الواردة فيمن يقف خلف هذه التفجيرات، وأعني هنا: إرهاب إيراني، إرهاب داعشي، إرهاب آخر، يعود سببها جميعا هي المدرسة الوهابية التي انتجت كل هذا الحقد الداخلي والعفن الطائفي، وفرخت عناصر داعش وقبلها القاعدة وطالبان وغيرها الكثير من النباتات السامة. وبسببها أيضا، تبنت موقف العداء المتطرف من الدولة الإيرانية الصفوية، التي طبعا لا أبرئ ساحتها أيضا في مساهمتها في هذا الخلاف الطائفي المقرف، وهذا السرطان الذي لم يذهب ضحيته إلا الإنسان المواطن. وكلي أمل ورجاء أن تذهب بسببه العروش المستبدة والعمائم والبشوت غير الإنسانية قريبا، ليأكلوا ما صنعت أَيديهِم وعقولهم المسكينة المريضة. وأولها النظام الديني والسياسي السعودي الذي أزعم أنه أصل الشرور في المنطقة، إنه زواج شيطاني لم يخلف إلا كل شر سواء على مستوى الداخل أو الخارج.

أيضا من الأمثلة المهمة على الاستبداد الداخلي والخارجي في آن واحد، ما حدث في العراق بعد سقوط بغداد. استبداد الحكومة العراقية الشيعية المدعومة من إيران على المكون السني العراقي. أيضا، لا يمكن أن نتجاهل ما قامت به أمريكا من عبث واستهتار عن طريق احتلال غاشم الذي ساعد مع الأول بتشكيل داعش بشكل مباشر كردة فعل نفسية تغذيها أفكار دينية متطرفة. وكلنا يعلم أن النسيج الذي تتكون منه التنظيمات المتطرفة مثل داعش والقاعدة وغيرها الكثير من التنظيمات هو من الطائفة السنية الوهابية أو المتأثرة بشكل كبير بهذا الفكر.

نقترب إلى الواقع العماني لنستخدمه كمقياس للتأكد من صحة ذلك الادعاء. ألم نسمع عن المواطنين العمانيين الذين غرر بهم وذهبوا للجهاد إلى أفغانستان وسوريا ولبنان. البعض منهم قتل، والبعض منهم ما زال متواجدا على أرض الجهاد، كما يؤمنون، أو رغما عنهم بعد معرفتهم لحقيقة خدعة الجهاد، والبعض الآخر تمكن من الفرار والرجوع إلى أرض الوطن وهم يشكرون الرب على تمكنهم من الفرار! هل نعلم أن الغالبية العظمى إذا لم يكن جميعم من ذهبوا للجهاد يقطنون جغرافيا محافظة الباطنة -محافظة الباطنة متأثرة أكثر من غيرها بالفكر الوهابي-، ومتأثرون بشكل مباشر بالفكر الوهابي إما عن طريق أحد أقاربهم أو أصدقائهم من المتشددين وإما بدرس مباشرة في حلقات التطرف والتشدد وغسيل المخ في السعودية وانتشى بالفكر الوهابي! وإذا كانت هناك حالات تختلف فهي شاذة جدا.

السؤال لماذا الفكر الوهابي دون غيره؟ هل حقا الفكر الوهابي يختلف عن غيره من المذاهب والعقائد فكريا؟! وعلى الرغم أن معظم المسلمون يشتركون في الموروث الديني نفسه تقريبا إلا أن أيا من المذاهب لم يُؤصل للدم والتطرف كما فعل الفكر الوهابي. فنواقض الإسلام العشرة لمحمد عبدالوهاب تأصل للتطرف وإسالة الدماء بقلب بارد تطبيقا للدين والقرآن كما يعتقد. مع العلم أن جميع استدلالاته لهذه النواقض من القرآن!

وما زاد الطين بلة وساهم أكثر في تخلف الدول العربية الزاعمة للديموقراطية. الصحوة الإسلامية التي صاحبت قيام الدول الديموقراطية الزائفة، وأعني هنا بالزائفة أنها أختزلت الفكر الديموقراطي في صندوق أجوف يجر الناس له جرا لتلقيمه أصواتهم، وهذا بخلاف الخلفية التاريخية لولادة مفهوم الديموقراطية كما ذكرت أعلاه. حيث ساهمت الصحوة الإسلاموية في عودة الفكر الكهنوتي القروسطي من جديد، الذي يدعي الحقيقة الدوغمائية المطلقة ومحاربة خيارات التعددية الدينية والمذهبية، والمشروع الوطني ومحاولة الاستبدال به نظاما قديما عليه أكثر مما له وهو دولة الخلافة الإسلاموية أو دولة الرب بالمعنى الحرفي الدقيق. رغم أن فكرة تأسيس دولة إسلاموية ينافي فكرة العالمية التي تذكرها الأدبيات الإسلامية أنها من أهم مميزات الرسالة المحمدية. حيث لا يمكن أن تكون عالمية إلا إذا توافقت مع الطبيعة البشرية القائمة على التدافع والديناميكية الاجتماعية بسبب الاختلاف والتعددية الذي ينتج عنه التطور الحضاري. والتوافق هذا يدفعنا للإيمان والتسليم بوجود الفهم المتابين والمتنوع للرسالة. وفكرة الدولة الإسلاموية تنافي مبدأ العالمية التي ستنحصر في ثالوث الزمان والمكان والفهم الواحد.

ولهذا ليس من المستغرب أبدا عندما نسمع خطيبا في منبر صلاة جمعة، في دولة غربية احتضنته وأنفقت عليه ووفرت له الأمان وسمحت له في بناء منبره وممارسة شعائره بكل أريحية وأعطته مساحة من الحرية لا يحلم بربع ربعها في بلده الأصلي، يقول: “نحن في دار كفر”، رغم الحياة الديموقراطية والعلمانية والتعددية الدينية والسياسية التي تحيط به وينعم به من خيراتها! وكم شهادنا في التلفاز سابقا من احتجاجات واعتصامات تحمل الطابع الإسلاموي الأصولي نفسه في دول غربية أيضا، يطالبون فيها بتطبيق شرع الله وتكفير الدولة التي آوتهم وسمحت لهم بذلك الاحتجاج!

أعود للحاضر القريب من بوابة تونس لطرح تساؤل حول أسباب نجاح الربيع العربي بشكل أكبر وأقل خسائر في الأرواح وماديا، في تونس أكثر من غيرها من الدول العربية الأخرى التي مرت بالظروف نفسها. لا يوجد شيء يأتي من فراغ؛ فأي باحث مبتدئ يستطيع بشكل واضح أن يلاحظ أن المجتمع التونسي مختلف جدا على سبيل المثال عن المجتمع المصري والليبي، من حيث نوع التعليم وفي نسبة تفشي الأمية القديمة، القراءة والكتابة، واحتكاكهم بالحضارة الغربية. والأهم والواضح مدى عقلانية حركاتهم الإسلاموية تقريبا. فلو قارنا على سبيل المثال بين إخوان مصر وإخوان تونس فسنجد هناك بونا شاسعا فكريا وسياسيا. فعلى مستوى المجتمع نجد رجل الشارع المصري والليبي محاصرا بالفكر السلفي حتى في معاملاته اليومية، بيد أن المجتمع التونسي نجده في الغالب مجتمعا منفتحا ويميل للعلمانية أو المدنية في نسق التفكير. وهذا انعكس على مستوى مشاريعهم الإسلاموية التي تميل بشكل كبير للعقلانية وعلمانية النهج. وهذا الواقع التونسي مهد بشكل أكبر لنجاح تجربتهم وحصولهم مؤخرا على جائزة نوبل للسلام.

أليس هذا الواقع التونسي كافيا ليؤكد مدى الحاجة لوجود فكر ديني متجدد يلامس متطلبات الواقع ومواكب لركب التطور البشري خاصة على مستوى العقد الاجتماعي؟! وفي الحقيقة لا أنكر أنه ما زال المشوار طويلا أمام تونس. وكما يقول التاريخ، ليس من الضرورة أن يستمر التقدم على مستوى ثابت متصاعد، سيكون هناك تراجع أحيانا للخلف ثم الانطلاق مرة أخرى للأمام.

هذا بخلاف المشاريع الإسلاموية أو الإسلامسياسية الأخرى التي فشلت بالنهوض بعالمنا المتخلف للحاق بركب الحضارة. وهذا يعود لسبب واحد رئيس فقط هو أن كل هذه المشاريع لا تحاول علاج أصل المشكلة في الحقيقة، بل تعمد إلى العكس، في تأسيس وتأصيل فكر أعمى متخبط لا يرى أصل المشكلة، فكر يسور أصل المشكلة بجدران من التقديس. حقيقتها المطلقة الوحيدة أن الأتباع يرثون المقدس، ويقدسون الموروث، ويورّثون المقدس، كحقائق مطلقة. متجاهلين أن مرحلة بناء أي فكر جديد يلامس حاجات الواقع تسبقه مرحلة التفكيك والنقد والهدم لجميع الركائز الفكرية المكونة للعقل الجمعي بلا استثناء ، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة البناء.

وهذا يدعونا لتبني -بوضوح- موقف الحاجة الملحة للنقد التاريخي والفيلولوجي الذي يطبق على القرآن قبل الحديث والسيرة النبويّة والتفاسير، بحكم أنه المصدر الأول للتشريع الذي يحمل طابعا قطعي الثبوت عند جميع المسلمين والذي يمكن من خلاله أن تبدأ مرحلة الانطلاق والنهوض والتنور من الظلام، كما يعكسه الواقع ، بعيدا عن تنظيرات الإسلاموية اليوتوبية التي تحاول الاستئثار بالله عن الأديان الأخرى بفاشية استعلائية عن طريق فكرة خير أمة أخرجت للناس، وعن المذاهب الأخرى بشيزوفرينية مقيتة أخرى عن طريق حديث الفرقة الناجية. أخيرا أقولها بأعلى صوت: نحتاج إلى حلول ناجعة وشجاعة.


*نشر المقال في مجلة مواطن في العدد 24، تاريخ 25 نوفمبر 2015






المشاركات الشائعة