إلى بعض مطاوعتنا.. لنتحاور بكلماتكم.. لعل وعسى - محمد الفزاري
صدفةً، قبل أيام قابلت في السوق أحد المحاضرين بجامعة السلطان قابوس بقسم العلوم الإسلامية وكان قد درسني سابقاً مادتين اختياريتين ومع الأيام نشأت بيننا صداقة. وبسبب الظروف لم نلتقي لمدة طويلة حتى بعد خروجي من الاعتقال وكان تواصلنا مقتصراً على الهاتف، الشيء الغريب الذي لاحظته متغيراً في شكل الدكتور هو طول اللحية، كانت سابقاً بطول قبضة اليد أما الآن كما يبدو أطلق العنان لها وزاد طولها أكثر من ضعفي ما كانت عليه. وأنا لم أعلق بشيء في البداية، لكن بعد جلوسنا لتناول القهوة بدأ الحديث حول قضيتنا والفترة التي قضيتها بالسجن بعدها عقبت مازحاً مهاجماً في نفس الوقت " دكتور ما شاء الله اللحية أشوفها طالت، أكيد الإيمان زاد!" هو لم يعلق بشيء حتى الآن واكتفى بابتسامة بسيطة، ربما لأنه يعرف شخصيتي الهجومية أحيانا، بعدها أردفت قائلاً " دكتور بما أن إيمانك زاد كما يبدو لي ظاهرياً إذن أين أنت من أولويات الإسلام! أليس من الواجب عليك الحرص عليها بجانب الأمور الفرعية أقلها! أنت شخص مختص في العلوم الإسلامية وتعلم بالدعوة التي نادى بها الرسول في بداية بعثته! أين أنت من ذلك؟"
هنا جاء الرد العجيب و يا ليته لم يرد ولم يعقب على كلامي واكتفى بتلك الابتسامة " أنا فاهم إيش تقصد وواضح كل شيء من فساد وغيره، لكن ما نقدر نتكلم ما عندنا دليل على كل الفساد الي يصير في البلد!!!". رحم الله جمال الدين الأفغاني ومحمد عبدة وسيد قطب وكشك ورشاد رضا والبنا والكواكبي ومحمد الغزالي وغيرهم وأسكنهم فسيج جناته مع الأنبياء والصديقين، لم يتخاذلوا عن قول الحق رغم سطوة الاستبداد عليهم فسجنوا وعذبوا وشردوا وبعضهم أستشهد، لكن لم يتهاونوا ويعتذروا بأعذار واهية ما أنزل الله بها من سلطان لا تسمن ولا تغني من جوع. ألم نقرأ ما كتبوا! هل كانوا يستشهدون بالأدلة على كل واقعة فساد! أم أنهم اكتفوا فقط بمحاربة الفساد بظاهره العام كما أتضح لهم ولغيرهم وقتها! فلا أحد يستطيع أن ينكر عدم وجود الفساد وغياب العدالة الاجتماعية وظهور الطبقية الواضحة جداً وقمع الحريات وأصوات الوعي والإصلاح في بلادنا، هل أحتاج لدليل لأقول كلمة الحق؟ أليس طلب الدليل والتحري عنه هو من اختصاص جهات معينة؟
بعض الكلمات أخطها هنا لعل وعسى تحرك ضميراً حياً، كلمات وجمل معروفة لكن يقول عز وجل في محكم كتابه " فذكر إن الذكرى تنفع المؤمنين".
لماذا نتذمر سراً وخجلاً من الظلم والظالم مكتفين بالحديث مع النفس؟ هذا هو للأسف حالنا، دائماً نندد بالظالم ونلقي اللوم عليه وننسى أنفسنا ونتناسى ما قدمته أيدينا من أفعال وما قدمته ألسنتنا من أقوال تعين هذا الظالم على ظلمة والمستبد على استبداده ليعيثوا في الأرض فساداً وجوراً وبهتاناً.
نحن نستحق الظلم إذا خالفنا بكل بساطة قانوناً ربانياً واضحاً، الله سبحانه وتعالى أمرنا بالوقوف ضد الظالم في ظلمه وجوره لا نميل معه ومع أعماله الظالمة لأن الله وعدنا بعدم النصر ولا التوفيق في وقوفنا مع الظالم، قال تعالى: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون) صدق الله العظيم. واضح جدا من الآية أن الله سبحانه وتعالى أولاً يتوعد من يقف مع الظالم أن تمسه النار وأيضا عدم النصرة والتوفيق من عنده، لكن يجب أن نقف وقفة تأملية على هذه الآية، هل المقصود هنا فتمسكم النار أي هي نار جهنم وستكون مصير المظلوم مثل الظالم أيضاً، أم نار الظلم الذي سيأتيه ويلحقه جراء ميله ومساندته للظالم في الدنيا!
والله سبحانه وتعالى يسلط المستبد للانتقام من عباده الخاملين الواهنين ولا يرفع عنهم حتى يتوبوا توبة الأنفة، وهناك عبارة معروفة" كما تكونوا يولى عليكم"، نعم إذا كنا شعب ذليلاً فمن السهل أن يستبد، فعقاب الله هو أن يرسل الذين يشاركونه في عظمته وجبروته ليستعبد الخاملين فالظالم سيف الله ينتقم به ثم ينتقم منه ومن أعان ظالماً على ظلمه سلطه الله عليه قال تعالى: ( إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون) صدق الله العظيم.
"كما يولى عليكم تكونوا"، عبارة أخرى في خطين متوازيين في السبب والنتيجة مع العبارة الأولى كما تكونوا يولى عليكم، "فأصعب أنواع الاستبداد هو استبداد الجهل على العلم واستبداد النفس على العقل والروح" (الكواكبي)، ينتج عنهما شعب ضعيف متخلف في جميع نواحي الحياة، فالاستبداد والظلم وغياب العدل وغيرها من الصفات تسمى في مجملها أخلاق، ويقول الشاعر إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن ذهبت أخلاقهم ذهبوا. وكل مستبد حاول أن يظلم ويستعبد الآخرين لسلطانه، فإن الإنسان مأمور بمقاومته ومجابهته، لأنه وبكل بساطة ومن غير اللائق والجائز أن يقبل المؤمن بعبودية لغير الله وأيضا أن الله سبحانه وتعالى جل جلاله كرم الإنسان فخلقه حراً وإذا ما أرتضى لنفسه الذل وقبل بالظالم والمستبد دون أن يثور عليه فإن عقابه لا يقل عمن مارس الطغيان، فالمُستبِد كالمُستبَد والطاغية كالقابل بالطغيان والظالم كمن ارتضى الظلم.
لذا يجب أن نقف وقفة جادة أمام أي ظلم يصدر من أي ظالم، فلا يكفي فقط إلقاء اللوم على الظالم، بل علينا أن نتخذ إجراءات عملية وحقيقية في سبيل التحرر من أي ظلم وقهر و استعباد من أي مستبد، والتعلم من سلفنا الصالح من الصحابة الكبار الذين ضربوا لنا أروع الأمثلة في نشر العدل ونصرة الحق وإعطاء ذي حق حقه، فجميعنا يعلم قصة الفاروق مع الصحابي سلمان الفارسي رضوان الله عليهم عندما وقف الأخير وقفة صارمة عندما شعر فقط أن الفاروق قد ظلمه وظلم غيره من الصحابة في توزيع القماش وقال "لا نسمع منك ولا نطع"، لكن بعد ما علم بخلاف ما شعر به من ظلم بكى وقال "قل الآن نسمع وأمر نطع"، سبحان الله من كان أعدل من الفاروق في زمانه وزمان خلافته والتاريخ يشهد بذلك لكن الصحابة لم يتهاونوا أبداً في مراقبته ومحاسبته.
هذه هي الأمثلة التي يجب أن نتعلم منها وهذه هي الحياة التي يجب أن نتبعها ولا نستمع إلى الأصوات التي تشترى بالأموال والمنصب والسلطة من علماء وفقهاء، الذين يفسرون القرآن على أهواءهم الضعيفة، حيث يفسرون المصلح في هذه الآية - قال تعالى: (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون) – بالإنسان كثير العبادة والمفسد هو من يشوش على المستبد لا من يخالف ويخرب نظام الله، ويذكرني هذا بمقولة المصلح والمجدد الكبير عبدالرحمن الكواكبي عندما يقول ساخراً "من أين جاء فقهاء الاستبداد بتقديس الحكام عن المسؤولية حتى أوجبوا لهم الحمد إذا عدلوا وأوجبوا الصبر عليهم إذا ظلموا وعدوا كل معارضة لهم بغياً يبيح دماء المعارضين".
فلا يمكن أن نتخلص من بطش وظلم المستبد الظالم، مازلنا نحن نظهر له كل مظاهر وأشكال الذل والخذلان والخنوع حتى في أبسط حقوقنا، يجب أن نتعلم كيف نواجه ونرفض هذا الظلم بشتى أنواعه وعدم القبول به في مجتمعاتنا بجميع أفراده ويكون شاملاً، رفضاً نفسياً وعقلياً وأخلاقياً وثقافياً واجتماعيا، وهذا ما يأمرنا به ربنا في محكم كتابه (والله لا يحب الظالمين) صدق الله العظيم. ليس هذا فقط بل يجب الجهر بظلم وحقيقة الظالم والتشهير بجميع أعماله الاستبدادية الدينية والاجتماعية والعلمية والمالية حتى يعلم الجميع حقيقة الظالم، قال تعالى: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعاً عليماً) صدق الله العظيم.
رسالة للمستبد الظالم:
يحُكي أن الحجاج حبس رجلا ظلماً، في حبسه كتب إليه رقعة فيها :
قد مضى من بؤسنا أيام، ومن نعيمك أيام، والموعد القيامة، والسجن جهنم، والحاكم لا يحتاج بينة وكتب في آخرها:
ستعلم يا نؤوم إذا التقينا **** غداً عند الإله من الظلوم
أما والله إن الظلمَ لؤم **** وما زال الظلوم هو الملوم
سينقطع التلذذ عن أناس **** أداموه وينقطع النعيم
إلى ديان يوم الدين نمضي **** وعند الله تجتمع الخصوم