اللغة والهوية بين البناء والهدم - محمد الفزاري

عبر التاريخ لعبت اللغة دوراً أساسياً ومحورياً في الحفاظ على الموروث الأدبي والفكري لأي حضارة سواء كان بالكتابة كالكثير من اللغات المكتوبة أو شفهياً كبعض اللغات غير المكتوبة والتي لا يوجد بها حروف هجاء مكتوبة متفق عليها؛ فمن خلال اللغة تستطيع أن تسبر أغوار أي حضارة لتلتمس هويتها الثقافية والدينية والفكرية وحتى تعاطيهم وتعاملهم مع تفاصيل الحياة الدقيقة. وقوة اللغة من ضعفها في الانتشار لأي شعبٍ ما يعتبر دليلاً قاطعاً دون شك على قوة وتقدم ذلك الشعب علمياً واقتصاديا وعسكرياً.


هذا ما أدركه وفطن له إليعيزر بن يهودا الأديب واللغوي اليهودي الصهيوني في أواخر القرن التاسع عشر (1879) أي قبل ولادة دولة إسرائيل رسمياً بسبعين سنة عندما نشر أول مقالة له وقال فيها مصرحاً أن نهضة اليهود ستكون في فلسطين، وأن أساسها سيكون عن طريق تبني اللغة العبرية في جميع مجالات الحياة اليهودية، لأن الشعب لا يمكن أن يتمكن من النهضة دون لغة مشتركة بين أبنائها. أدرك بن يهودا هذا الشي لأنه أتضح له جلياً أن اللغة العبرية في ذلك الوقت كانت شبه ميتة وجميع اليهود المنتشرين حول العالم يستخدمون لغات مختلفة حيث يعيشون. واللغة العبرية كانت تستخدم فقط في المناسبات الدينية فضلاً عن أنها لم تواكب مقتضيات العصر والحياة اليومية فلا توجد كلمات عبرية تعبر عن الاختراعات الجديدة الإلكترونية والأكلات والألعاب وغيرها من الاستخدامات اليومية.

فعمد بن يهودا على اختراع وصك كلمات عبرية جديدة للكثير من الاستخدامات اليومية، حتى تطور الحال بعد ذلك على تأسيس لجان وقيام مؤسسات مهتمة بالتطوير ونشر اللغة العبرية و إنشاء مدارس تدرس باللغة العبرية. أثمرت جهود بن يهودا بعد ذلك في تأسيس أول جامعة يهودية تدرس باللغة العبرية عام 1925 أي بعد وفاته بسنتين وسميت بالجامعة العبرية. وحالياً تصنف هذه الجامعة من أفضل ثمانين جامعة حول العالم وتخرّج منها الكثير من المبدعين والعلماء الذين نال بعضهم بعد ذلك جائزة نوبل مثل دانييل كاهنمان وأهارون تشيخانوفير.

وهذا يدل على أهمية اللغة في التطوير والحفاظ على الهوية لأي مجتمع وحضارة. لكن ما نراه الآن في عالمنا العربي وللأسف هو عكس ذلك تماماً ومن الممكن أن نستثني من ذلك فقط التجربة السورية الخجولة سابقا. وأنا شخصياً من المناهضين حول لغة التعلم والتدريس المطبقة حالياً في الدراسة الجامعية وهي اللغة الإنجليزية ولا أقصد تعلم اللغات الأجنبية، لأن تعلم اللغات الأجنبية مفيد دون شك لمن يملك الرغبة في التعلم وديننا أوصانا بذلك، بل أقصد أن لا نجعل اللغة الإنجليزية وسيلة للتّعلم. أعلم ما سيقوله البعض" كيف سأستطيع بعد ذلك مُسايرة ومُواكبة كل ما هو جديد في حقل تخصصي إذا كان ما حولي من دراسات ومؤتمرات باللغة الإنجليزية!"، لكن هل يعتبر هذا سبباً كافياٍ لنهمل لغتنا ومصدر قوتنا؟ أليست هناك حلولاً يمكن أن تُطبق لحلِّ هذا الإشكال؟ وفي رأيي التجربة خير برهان والجامعة العبرية أكبر دليل على ذلك.

بعد تلك الأسطر التي وضحت فيها ولو بصورة مقتضبة أهمية اللغة في بناء الدول، سنرى الآن كيف ساعدت اللغة على التعبير عن الهوية لكن بصورة معكوسة ومغايرة ساعدت على سقوط وتخاوي بعض العروش. لو رجعنا بذاكرتنا للخلف قليلاً أيام الربيع العربي، سنستشف منه كيف وُظّفَ الإعلام التقليدي والإعلام الجديد وأقصد هنا مواقع التواصل الاجتماعي مثل الفيسبوك وتويتر اللغة وبالتحديد الشعارات اللفظية (slogans) بالتعبير عن هوية الشعب وما بداخلهم من أحاسيس اتجاه حكوماتهم. ولو أخذنا على سبيل المثال الثورة المصرية، سنلاحظ أن اللغة التي استخدمت في الشعارات من قبل أيام الثورة وحتى انهيار عرش مبارك، قامت بعملية التجريد اللغوي السياسي بشكل تدريجي، فالرئيس حسني مبارك كان يطلق عليه سيادة الرئيس حسني مبارك، بعدها الرئيس مبارك، بعد ذلك تطور حال إلى حسني مبارك، ومبارك فقط، حتى وصل الحال نعته بضمير الغائب "هو"، وكلنا نعلم دلالة الضمير الغائب الذي يدل على التهميش والإنكار الشبه نهائي بأي صلةٍ بذلك الشخص. ويحضرني الآن شعارين من الثورة المصرية بالضمير الغائب " حكم 30 سنة في القصر.. هو إهانة لشعب مصر"، " هو حاجة ونحن حاجة".

طبعاً عمان أيام الربيع العربي أثناء الاعتصامات لم تخرج من هذا الإطار؛ فحدث بها كما حدث بالدول التي حدثت بها اعتصامات وحراك شعبي. الكثير من الشعارات عبرت فيها تلك الشعوب عن هويتها وقدر ضيقها وتذمرها وقدر ولاءها للسلطة الحاكمة؛ ففي عمان كلنا يتذكر أشهر شعار والأكثر انتشارا أيام الاعتصامات هو "يداً بيد مع السلطان نحو الإصلاح". وهذا يعطينا مؤشر واضح على قدر ولاء الكثير من العمانيين للسلطان في ذلك الوقت، وأملهم الكبير في حكومته بالتجاوب السريع لمطالب الشعب. لكن بعد فترة من ذلك الشعار ظهر شعار آخر يقول " إن كنت لا تعلم فتلك مصيبة وإن كنت تعلم فالمصيبة أعظم". وهذا الشعار يعطينا انطباعاً عن مكنونات من حمل ذلك الشعار ونادى به بصورة مختلفة دون شك. والنقطة الأخرى هي أنه يتوجب علينا ألّا نغفل عن لغة الحديث اليومية في الحوارات الشفوية وحتى في مواقع التواصل الاجتماعي عندما يتمحور الحديث حول السلطان والحكومة لأنها مؤشر واضح عن الهوية.

والسؤال هنا.. في حالة حدوث حراك آخر في السلطنة، ما هي نوع "اللهجة" التي ستستخدم في الشعارات اللفظية؟

المشاركات الشائعة