أن تكون بلا جنسية: حين يتحول الوجود إلى استثناء - محمد الفزاري
مقدمة العدد الثاني من مجلة مناصرة - شبكة مواطن الإعلامية
في هذا العدد الثاني من “مجلة مناصرة”، نسلّط الضوء على واحدة من أكثر القضايا تعقيدًا وتهميشًا في العالم العربي: قضية انعدام الجنسية. قضية قد تبدو في ظاهرها قانونية بيروقراطية، لكنها في جوهرها مرآة صادمة لاختلالات أعمق؛ في بنية الدولة، وفي مفاهيم المواطنة، وفي علاقة الإنسان بالمكان، وفي سلطة القبول والاعتراف.
أن تكون “عديم جنسية” لا يعني فقط أنك بلا وثائق؛ بل أنك خارج الاعتراف، خارج اللغة الرسمية، خارج الحماية، وخارج الخيال الجمعي. في هذا الفراغ القانوني والسياسي، لا تتلاشى الحقوق فقط؛ بل يُمس الجوهر الإنساني: أن تكون، أن تُرى، أن تُسمع؛ فكل ما نظنه من المسلّمات؛ كأن تذهب إلى المدرسة، أو تفتح حسابًا مصرفيًا، أو تسافر، أو تسجل مولودك؛ يتحول إلى امتياز مشروط، لا إلى حق مضمون.
تأتي مواد هذا العدد من دراسات وشهادات ومقابلات ومساهمات فكرية وإبداعية، لتكشف عن عمق هذه المأساة، لا كقضية إنسانية مجردة؛ بل بوصفها تحديًا سياسيًا وأخلاقيًا يطالُ جوهر مفهوم المواطنة؛ لا لنثير عاطفة عابرة؛ بل لنضيء ما أُريد له أن يبقى في العتمة من موقع الواجب الحقوقي والالتزام الصحافي. نقرأ شهادات لأشخاص ولدوا في وطنٍ لا يعترف بهم، لأمهات عاجزات عن منح أطفالهن اسمًا وجنسية، لأفرادٍ ظلوا طيلة حياتهم “معلقين” بين وجود فعلي وغياب قانوني. دون أن يغيب عن وعينا تسليطُ الضوء على الارتباط العميق بين الاستعمار وقوانين الجنسية، وكيف ورثت دول المنطقة أنظمة قانونية تنتج الإقصاء بدلاً من أن تعيد توزيع الانتماء.
في هذا العدد أيضًا، نمضي في توغلٍ فكري عبر مقاربات فلسفية تتناول مفهومي الاعتراف والهوية، وتحليلات قانونية تفضح كيف يُستخدم القانون أداة لإعادة إنتاج التراتبية الاجتماعية. ولا تقتصر المعالجة على رصد النقص في الحقوق؛ بل تمتد إلى مساءلة جوهرية لما تعنيه “الهوية” أصلًا، وما إذا كانت الجنسية حقًا، ينبغي أن تكون مرتبطة بمزاج الدول وحدود الجغرافيا. وإلى جانب ذلك لم نغفل أهمية الفن بوصفه أداة رمزية قادرة على تفجير أعمق طبقات المعاناة التي يعيشها عديمو الجنسية يوميًا؛ إذ يُبرز العدد محاولات فنية وإنسانية لإعادة كتابة الحضور الإنساني في مواجهة الإقصاء الرمزي.
نقرأ أيضًا عن المقاومة: عن نساء ورجال وأطفال يعيدون صياغة الحياة خارج النظام، يخلقون اقتصاداتهم وهوياتهم ودوائرهم الخاصة، ويثبتون أن الحياة لا تُقاس بالأوراق؛ بل بالفعل والخيال. هؤلاء لا يقفون عند حدود الألم؛ بل يعيدون تشكيل واقعهم من داخل الهامش، يكتبون قصصهم بلغتهم، ويحولون هشاشتهم إلى وعي وابتكار؛ حيث يتجلى وجه آخر لهؤلاء “المعدومين”: وجه المقاومة الناعمة، والعناد الوجودي، والعيش رغم كل شيء.
تسعى مجلة مناصرة لأن تكون أكثر من مجرد وسيلة صحافية؛ إنها منصة للتوثيق ومجال للبحث وساحة للمناصرة. ومن خلال هذه القضية، نجدد التزامنا بالربط بين الصحافة وحقوق الإنسان، وبأن نكون صوتًا لأولئك الذين يُصنفون على أنهم من اللا مكان، بينما هم هنا، حاضرون الآن، ويعيشون في قلب هذا المكان الذي يُنكرهم.
وفي وقت يتصاعد فيه الخطاب الاستئصالي، ويُضيق فيه الخناق على الحقوق الأساسية؛ يصبح النشر فعل مقاومة. لا تقتصر وظيفتنا على تسليط الضوء؛ بل على بناء الجسور، وتفكيك السرديات السائدة، وتحدي منطق الدولة التي ترى في الاعتراف منحةً لا حقًا. إننا نصدر هذا العدد، ليس فقط للقراءة؛ بل للمطالبة والحوار والحراك والأمل.



تعليقات
إرسال تعليق