تجريد الإنسانية: مقاربة بين فيلم The Goat Life والمسألة الفلسطينية | محمد الفزاري
مؤخرًا وعبر منصة نتفليكس، شاهدت الفيلم الهندي The Goat Life “حياة الماعز” (2024) المبنية أحداثه على رواية صدرت عام 2008، حملت نفس العنوان للكاتب الهندي بينيامين. فيلم لا يمكن أن تشاهده إلا ويترك أثرًا بليغًا في نفسك، بفضل قوة سرديته وعمق القضية الإنسانية التي يعالجها؛ وهذا ما دفعني لكتابة هذا المقال كمقاربة مع قضية إنسانية أخرى تشغل حيز تفكيري اليومي، وتفكير كل إنسان أولًا، ثم كل عربي ثانيًا، القضية الفلسطينية؛ خاصة منذ أحداث السابع من أكتوبر.
تدور أحداث الفيلم في المملكة العربية السعودية حول قصة نجيب محمد ورفيقه حكيم، وهما مهاجران من ولاية كيرالا الهندية، قدما إلى السعودية حاملين أحلامًا بحياة أفضل بعدما حصلا على تأشيرات من خلال معارفهم. ولكن منذ لحظة وصولهما، يتكشف أمامهما واقع مرير لم يكن في الحسبان؛ واقع يحمل في طياته كل أشكال المعاناة التي قد يواجهها الإنسان عندما يتم التعامل معه كأداة وليس ككائن بشري.
في المطار، يواجه نجيب وحكيم أولى علامات سوء الفهم والتخبط؛ إذ يخطفهما أو يُخطئهما أحد المحليين باعتباره مسؤولًا عنهما، أو كما هو دارج في الخليج “الكفيل”، ما يقودهما إلى بداية رحلة طويلة من الاستغلال. سرعان ما يجد نجيب نفسه عالقًا في أعماق الصحراء السعودية وحيدًا بعدما يُفصل عنه حكيم بالقوة، مجبرًا على العمل كراعٍ للغنم والجمال في ظروف قاسية وغير إنسانية، بعيدًا عن أي شكل من أشكال الحياة الكريمة.
بالإضافة إلى هذا يواجه نجيب أيضًا معاناة جسدية ونفسية قاسية، تُجرده من كرامته وإنسانيته. ومع مرور الوقت، يتفاقم الوضع أكثر عندما يختفي رفيقه في العمل، الذي سبقه في التجربة المريرة مع نفس الكفيل منذ سنوات ليست بالقليلة، كما يتضح من مظهره؛ حيث تقع على عاتقه كل مهام العمل. إلا أن لحظة اكتشاف نجيب جثة رفيقه في العمل في العراء تأكلها النسور في مشهد تتجرد منه كل الصفات الإنسانية؛ يبدأ في إدراك مدى خطورة وضعه ومصيره الحتمي. يخطط للهروب، إلا أن كل محاولاته تبوء بالفشل ليجد نفسه مرة أخرى محاصرًا من كل أشكال التجريد الآدمي يمكن أن يتخيلها أي إنسان.
صحراء الخليج وصحراء فلسطين: تجريد الإنسانية عبر الزمن
في الخليج العربي، تعتبر قصة نجيب وحكيم ليست استثناءً؛ بل هي صورة مصغرة للواقع الذي يعيشه العديد من العمال المهاجرين؛ خاصة من جنوب آسيا. يتم استقدام هؤلاء العمال بأحلام وردية لتحسين أوضاعهم الاقتصادية، ولكنهم يواجهون في الواقع ظروفًا قاسية ومهينة؛ حيث يُعاملون كأدوات عمل وليس كأفراد لهم حقوق وكرامة. هذا الواقع ليس نتاج ظروف اقتصادية أو جشع فردي فحسب؛ بل هو جزء من نظام كامل يقوم على تجريد هؤلاء العمال من إنسانيتهم بشكل ممنهج تحت مسمى “الكفيل”.
في فلسطين، نجد تجريد الإنسانية يأخذ أبعادًا أكثر قسوة وتدميرًا. منذ أكثر من سبعين عامًا، يعيش الشعب الفلسطيني تحت احتلال يسعى بكل الوسائل إلى نزع إنسانيته وهويته. الاحتلال الصهيوني لا يكتفي باحتلال الأرض؛ بل يستهدف العقل والنفس الفلسطينية، مستخدمًا أدوات متعددة لتحقيق هذا الهدف. إحدى هذه الأدوات هي “التجريد الممنهج للإنسانية” (Systematic Dehumanisation)، الذي يُمارس بشكل متواصل لتبرير السياسات الوحشية ضد الفلسطينيين. لطالما صورت الدعاية الصهيونية الفلسطينيين على أنهم تهديد دائم أمام حقهم التاريخي والديني في أرض الميعاد، مما برر ويبرر قتلهم وتشريدهم وحرمانهم من حقوقهم الأساسية. هذه السياسات ليست عشوائية؛ بل هي جزء من استراتيجية طويلة الأمد تستند إلى نفس المنطلقات التي استخدمها المستعمرون الغربيون عبر التاريخ: الإمبريالية، الاستشراق، والعنصرية.
هذه المجازر ليست مجرد حوادث منفردة وجانبية؛ بل هي نتيجة استراتيجية طويلة الأمد هدفت إلى تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم. كما أن استخدام القوة المفرطة ضد المدنيين يُظهر كيف أن الاحتلال الصهيوني يعتمد على نفس السياسات التي استخدمها المستعمرون الأوروبيون في العالم العربي وأفريقيا وكل بقاع العالم المستعمر
التاريخ يعيد نفسه: تجريد الإنسانية في العالم العربي وأفريقيا
عندما نعود إلى الماضي ونتأمل في تاريخ الشعوب التي خضعت للاستعمار، نرى أن عملية “التجريد الممنهج للإنسانية” كانت جزءًا لا يتجزأ من أدوات السيطرة التي استخدمها المستعمرون. في الهند، على سبيل المثال، مارس البريطانيون سياسات قاسية تهدف إلى تجريد الهنود من حقوقهم وإنسانيتهم. المجاعات التي شهدتها الهند تحت الحكم البريطاني لم تكن مجرد نتيجة لسوء الإدارة؛ بل كانت نتيجة متعمدة لسياسات تجويع تهدف إلى إخضاع السكان وإبقائهم تحت السيطرة.
عانت العديد من الشعوب العربية والأفريقية من نفس السياسات الاستعمارية التي تهدف إلى تجريدها من إنسانيتها وطمس هويتها، لنأخذ مثال الجزائر، التي شهدت خلال فترة الاستعمار الفرنسي واحدة من أكثر الفترات دموية في تاريخها، تعامل المستعمر مع الإنسان الجزائري كأنه أقل من إنسان، وصوّره كهمجي متخلف، وكان هذا جزءًا من الأيديولوجية التي استخدمها المستعمر لتبرير مجازره. أحد أشهر هذه المجازر كانت مجزرة سطيف عام 1945، التي قُتل فيها عشرات الآلاف من الجزائريين بدم بارد، كانت مثالًا صارخًا على هذا التجريد المنهجي للإنسانية. بدأت المجزرة عندما تظاهر الجزائريون في مدينة سطيف مطالبين بالاستقلال عن فرنسا لاسترجاع كرامتهم وحريتهم وإنسانيتهم. إلا أن القوات الفرنسية ردت على المظاهرات بالقوة المفرطة؛ حيث قامت بإطلاق النار على المتظاهرين، مما أدى إلى مقتل الآلاف، تلا ذلك حملات قمع واسعة النطاق في المدن والقرى الجزائرية، أسفرت عن مقتل ما بين 20,000 إلى 45,000 جزائري.
وفي أفريقيا جنوب الصحراء، كانت سياسات التجريد أكثر وحشية في الكونغو البلجيكية؛ حيث حكم الملك ليوبولد الثاني (1885-1908) بقبضة من حديد، قُتل ملايين من السكان الأصليين في إطار ما سُمي بـ”التجربة الاستعمارية”. هؤلاء الناس لم يُعتبروا أبدًا بشرًا كاملين؛ بل كانوا مجرد أدوات لجمع الثروات لصالح المستعمرين. التجريد الممنهج للإنسانية هنا كان جزءًا لا يتجزأ من العملية الاستعمارية، التي استخدمت العنف والقمع لإبقاء السكان الأصليين في حالة من العبودية الدائمة. تحت حكم ليوبولد الثاني، تحولت الكونغو إلى جحيم على الأرض، كان السكان الأصليون يُجبرون على العمل في مزارع المطاط في ظروف قاسية، وكانوا يُقتلون أو وتبتر أطرافهم وتشوه أجسادهم إذا فشلوا في تحقيق الحصص المطلوبة، تشير التقديرات إلى أن ما بين 10 إلى 15 مليون كونغولي لقوا حتفهم نتيجة لهذه السياسات الوحشية.
هذا التاريخ من التجريد الممنهج للإنسانية لم يكن مجرد سياسة عابرة؛ بل كان جزءًا من نظام شامل يهدف إلى إخضاع الشعوب غير الأوروبية وإبقائها تحت السيطرة. الاستشراق، الذي قدّمه المستشرقون كطريقة لفهم الشرق وتبرير الهيمنة عليه، كان أداة رئيسة في هذه العملية أيضًا. قدم بعض المستشرقين صورة مشوهة عن الشرق باعتباره مكانًا للتخلف والجهل، ما ساعد على تبرير السياسات الإمبريالية والعنصرية ضد شعوب الشرق الأوسط وأفريقيا. كلها أمثلة على كيف أن الرجل الأبيض مارس نفس السياسة في كل مكان ذهب إليه. الأسباب والطرق دائمًا كانت نفسها: التفوق العرقي لتحقيق أقصى استفادة اقتصادية من خلال استغلال الشعوب المستعمرة عبر تجريدهم من إنسانيتهم بشكل ممنهج.
مجازر فلسطين: قبل وبعد 7 أكتوبر
لم تكن فلسطين بعيدة عن هذا المصير القاتم الذي كان نتيجة حتمية لسياسات نزع الصفة الإنسانية الممنهجة التي اتبعها الرجل الأبيض العنصري بسبب إيمانه بتفوقه. منذ بداية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، شهدت الأراضي الفلسطينية عددًا من المجازر التي استهدفت المدنيين بشكل منهجي، بهدف ترهيبهم وتشريدهم من أراضيه. أمثلة على مجازر حدثت قبل 7 من أكتوبر 2023 وهي على سبيل المثال وليس الحصر: مجازر حروب غزة ما بين 2008 – 2021 التي كان مجمل ضحاياها أكثر من 4 آلاف فلسطيني معظمهم من النساء والأطفال.
ولو عدنا بالتاريخ للخلف أكثر فهناك العديد من المجازر مثل مجزرة دير ياسين، وكانت واحدة من أكثر المجازر شهرة ووحشية في تاريخ الصراع، وقعت في عام 1948، عندما هاجمت قوات “الأرجون” و”شتيرن” الصهيونية قرية دير ياسين القريبة من القدس. خلال الهجوم، قُتل أكثر من 100 فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال. كانت هذه المجزرة جزءًا من استراتيجية أوسع لترهيب السكان الفلسطينيين وإجبارهم على الفرار من قراهم، وهو ما حدث بالفعل؛ حيث أدت هذه المجازر إلى نزوح مئات الآلاف من الفلسطينيين. كذلك مجزرة كفر قاسم التي وقعت في عام 1956، عندما قامت قوات حرس الحدود الإسرائيلية بقتل 49 فلسطينيًا من سكان قرية كفر قاسم، بمن فيهم نساء وأطفال، وذلك خلال ساعات حظر التجول. كانت الحادثة جزءًا من حملة أوسع للسيطرة على السكان العرب داخل إسرائيل ومنعهم من التحرك خلال العدوان الثلاثي على مصر.
بعد هجوم المقاومة الفلسطينية على المستوطنات الإسرائيلية في 7 من أكتوبر 2023، ردت إسرائيل بحملة عسكرية واسعة على قطاع غزة والضفة الغربية ما زالت مستمرة. هذه الحملة تضمنت سلسلة من المجازر بحق المدنيين؛ حيث تم استهداف المناطق السكنية بشكل مباشر ومتعمد. أسفرت هذه الهجمات حتى الآن عن مقتل أكثر من 40 ألف من الفلسطينيين، بمن فيهم من أعداد كبيرة من النساء والأطفال، وتدمير مئات المنازل والبنية التحتية الحيوية، مما أدى إلى نزوح جماعي للسكان. وما زالت سلسلة المجازر مستمرة عبر الاستهداف المتعمد للمخيمات والمدارس والمستشفيات التي يلجأ إليها المدنيون.
هذه المجازر ليست مجرد حوادث منفردة وجانبية؛ بل هي نتيجة استراتيجية طويلة الأمد هدفت إلى تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم. كما أن استخدام القوة المفرطة ضد المدنيين يُظهر كيف أن الاحتلال الصهيوني يعتمد على نفس السياسات التي استخدمها المستعمرون الأوروبيون في العالم العربي وأفريقيا وكل بقاع العالم المستعمر. لا يمكن لأي إنسان أن يرى تلك المشاهد المروعة لأشلاء الأطفال المتناثرة بعد كل مجزرة ويستمر في نفس سياساته الامبريالية، إلا لو كان يرى هؤلاء البشر أقل آدمية، وهذا ما يحدث في فلسطين كل يوم! لا يمكن لأي شعب أن يفرح ويستقبل بالأهازيج رؤية تلك الأشلاء مثلما يفعل الإسرائيليون إلا لو كانوا يؤمنون بأن الفلسطينيين أقل آدمية منهم! لا يمكن لأي شعب أن يتظاهر منددًا بسجن مجموعة عسكريين بسبب اغتصاب وتعذيب أسراه مثلما فعل الإسرائيليون، إلا لو كانوا يعتقدون أن الأسرى الفلسطينيين ليسوا فقط أقل آدمية بل ما هو أقل من ذلك!
العنصرية والتفوق العرقي: في الخليج وفلسطين
على الرغم أن مسألة العمالة في الخليج والمسألة الفلسطينية هما قضيتان مختلفتان بالكامل، إلا أننا نجد أن التجريد الممنهج للإنسانية له نفس الأثر المدمر في كلا السياقين، لكنه ينبع من جذور مختلفة. تتعرض العمالة المهاجرة في الخليج لظلم واستغلال قاسيين نتيجة لنظرة عنصرية تفوقية. هذه النظرة تعتبر هذه الجاليات مجرد قوة عمل يمكن استغلالها بلا رحمة لتحقيق مكاسب اقتصادية. إن الجشع هنا لا يعمل بمفرده؛ بل يتقاطع مع عنصرية دفينة تجعل من السهل تجاهل حقوق هؤلاء العمال وإنسانيتهم. هذه العنصرية ليست وليدة الصدفة؛ بل هي نتيجة لتراكمات تاريخية وثقافية تكرس هذه الممارسات اللاإنسانية. ورغم تنوع أشكال الاستغلال من حالة إلى أخرى، إلا أن الجذر المشترك يبقى في الاعتقاد بتفوق عرقي وثقافي يُستخدم لتبرير هذه المعاملة، وهو ما يعكسه فيلم “حياة الماعز” بوضوح.
من الضروري أن نتضامن مع الفلسطينيين، ومع العمال المهاجرين في الخليج، ومع كل من تُسلب حقوقه وإنسانيته في أي مكان في العالم. إن النضال ضد التجريد من الإنسانية هو نضال من أجل بناء مستقبل أكثر عدالة وإنسانية للجميع بغض النظر عن عرقه أو دينه أو خلفيته الثقافية
في فلسطين، يتخذ التجريد الممنهج للإنسانية شكلًا أكثر قسوة ودموية بكل تأكيد. يعتمد الاحتلال الصهيوني في سياساته القمعية على خليط معقد من الاستشراق والإمبريالية والعنصرية، مما يصور الفلسطينيين كخطر دائم يستوجب القضاء عليه. هذا التصوير العدائي لا يحرمهم فقط من حقوقهم الإنسانية الأساسية كأفراد؛ بل يبرر أيضًا السياسات الوحشية التي تُمارس ضدهم من قتل وتعذيب وتشريد. في هذا السياق، تصبح العنصرية أكثر من مجرد تحيز اجتماعي؛ إنها جزء من بنية أيديولوجية تهدف إلى تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم، وتستند إلى مطامع إمبريالية غربية ورؤية استشراقية تعتبر الشرق متخلفًا وخطيرًا. تبرر هذه الأيديولوجية الاحتلال تحت غطاء التفوق الثقافي والعرقي، مما يجعل الاحتلال يبدو أمرًا مقبولًا في عيون من يعتنقونها، ويضفي عليه صبغة “الضرورة” بدلًا من الظلم.
العواقب الإنسانية: الكرامة المسلوبة
في The Goat Life، نرى كيف يؤدي نزع الصفة الإنسانية إلى تدمير الفرد نفسيًا وجسديًا بشكل بطيء ومؤلم. نجيب، الذي بدأ رحلته بأمل كبير في تحسين حياته، يجد نفسه محاصرًا في كابوس حي في أعماق الصحراء. يتعرض لظروف قاسية لا تطاق؛ حيث يعاني من العزلة التامة والجوع والخوف المستمر. تدريجيًا، يتحول من إنسان يحمل أحلامًا وطموحات إلى مجرد كائن يسعى للبقاء على قيد الحياة. تُظهر قصة نجيب كيف يمكن للضغوط النفسية والجسدية المستمرة أن تحطم الإنسان من الداخل، مما يجعله يفقد إحساسه بذاته وكرامته.
نجيب ليس حالة فردية معزولة؛ بل هو صورة مصغرة لما يواجهه بعض العمال المهاجرين في الخليج يوميًا. يتم استقدام هؤلاء العمال بوعد حياة أفضل، لكنهم يجدون أنفسهم في كثير من الأحيان عالقين في دائرة من الاستغلال القاسي والخوف من فقدان وظائفهم. يتم تجريدهم من إنسانيتهم عبر حرمانهم من حقوقهم الأساسية في العمل والحياة الكريمة. هؤلاء العمال يُجبرون على العمل لساعات طويلة في ظروف شاقة دون حماية قانونية أو اجتماعية، مما يعرضهم للاستغلال المفرط. بالإضافة إلى ذلك، كما أشار الفيلم، تصل حدة الانتهاكات في بعض الحالات إلى الاعتداءات الجسدية والنفسية المستمرة؛ حيث يُعاملون كأدوات عمل بلا أي اعتبار لإنسانيتهم.
وفي فلسطين، نرى على نطاق أوسع نفس النتائج المدمرة للتجريد الممنهج للإنسانية، لكن بأبعاد أكثر قسوة وشمولًا. الشعب الفلسطيني، الذي يُجرد من حقوقه الأساسية بشكل منهجي، يتعرض لحرب نفسية وجسدية تهدف إلى كسر إرادته وإخضاعه بشكل كامل. السياسات الصهيونية لا تستهدف فقط الأرض الفلسطينية؛ بل تهدف إلى تفكيك الهوية الفلسطينية والقضاء على الروابط الاجتماعية والثقافية التي تجمع الشعب الفلسطيني. يعيش الفلسطينيون تحت وطأة سياسات قمعية يومية تشمل الاعتقالات الجماعية، والتعذيب، والحصار، والهجمات العسكرية التي تستهدف المدنيين والبنية التحتية. هذه السياسات ليست مجرد أدوات للقمع؛ بل هي وسائل لتدمير الروح الفلسطينية وإخضاع الشعب لإرادة الاحتلال. التجريد من الإنسانية في هذا السياق يتجاوز الأفراد ليصل إلى محاولة محو الهوية الجماعية للفلسطينيين.
البحث عن الإنسانية: الخلاص والعودة
في نهاية الفيلم، يعود نجيب إلى وطنه، بيد أن هذه العودة ليست رمزًا للانتصار بقدر ما هي محاولة للهروب من جحيم لم يختره ولم يكن له يد في خلقه. نجيب، الذي نجح في الهروب من قسوة الصحراء وضيقها، يعود إلى وطنه محطمًا نفسيًا وجسديًا، محملًا بأثقال تجربة قاسية تركت جروحًا عميقة في نفسه وروحه. ورغم كل هذه المعاناة، يحمل نجيب في عودته بريقًا من الأمل؛ فهو يستعيد جزءًا من إنسانيته التي سُلبت منه خلال رحلته المريرة، على أمل لملمة شتات آدميته التي دهست بفعل الاستغلال والجوع والخوف. استعادة الإنسانية ليست مهمة سهلة أو سريعة؛ بل هي عملية مؤلمة ومعقدة تتطلب من الفرد مواجهة آلامه والتعامل مع آثار التجريد من إنسانيته. وغالبًا ما يجد الضحايا أنفسهم مضطرين لمغادرة الأماكن التي شهدت تجريدهم من إنسانيتهم، بحثًا عن بداية جديدة وحياة مختلفة تعيد إليهم ما فقدوه.
ولكن بالنسبة للكثيرين؛ خاصة في فلسطين، فكرة العودة أو الخلاص تبدو صعبة المنال، ولكنها ليست مستحيلة؛ فالفلسطينيون يعيشون تحت وطأة احتلال يهدف إلى تجريدهم من إنسانيتهم وهويتهم بشكل مستمر، ومحاولة إخضاعهم وإجبارهم على الاستسلام ليست مجرد احتمال؛ بل هي واقع يومي يواجهونه. هذه العودة ليست مجرد عودة إلى أرض الوطن؛ بل هي عودة إلى هوية ضائعة، وحقوق مسلوبة، وكرامة مغتصبة. إنها رحلة تستلزم نضالًا طويلًا وتضحيات جسيمة؛ حيث يواجه الفلسطينيون ليس فقط الاحتلال العسكري؛ بل أيضًا محاولة دائمة لطمس هويتهم الثقافية والاجتماعية. إنهم يقاومون كل يوم ليحافظوا على ذاكرتهم الجماعية وتراثهم المشترك، وهو ما يجعل حلم العودة أكثر من مجرد هدف سياسي؛ إنها قضية وجودية: الحق في الحياة كإنسان.
إلا أن الفلسطينيين، ورغم كل ما يواجهونه من قمع وتشريد، لم يتخلوا عن حلمهم بالعودة إلى والوجود في وطن حر ومستقل. هذا الحلم هو ما يمنحهم القوة لمواصلة نضالهم، رغم كل المحاولات التي تسعى لثنيهم عن طريقهم. وهذا ما قام به نجيب؛ بقي متشبثا بحلمه، رغم توقفه عن محاولات الهرب، عندما أبقى حقيبته وملابسه بداخلها أملاً في العودة يومًا ما.
ضرورة التضامن الإنساني: نحو عالم أكثر إنسانية
المقارنة بين ما يحدث في فيلم The Goat Life وبين ما يحدث في فلسطين تدفعنا لإدراك ضرورة الاعتراف بالإنسانية المشتركة بين جميع البشر. في الخليج، يجب أن نواجه العنصرية التي تُستخدم لتبرير استغلال العمال المهاجرين، ونعمل على تحقيق العدالة والمساواة لهم. يجب أن ندرك أن هذه الجاليات، التي ساهمت بجهودها وعرقها في بناء دول الخليج، تستحق الاحترام والحقوق الإنسانية الكاملة، وليس منة؛ بل واجبًا.
أما في فلسطين؛ فإن النضال ضد سياسات التجريد من الإنسانية الممنهج يتطلب تضامنًا عالميًا لدعم حقوق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم وحريتهم. الفلسطينيون هم ضحية لنفس السياسات التي استخدمت ضد شعوب أخرى في العالم العربي وأفريقيا، ويجب أن يتوقف العالم عن تجاهل هذه الحقيقة. ما حدث وما زال يحدث في فلسطين، هو استمرار لنفس السياسات الاستعمارية التي عانت منها شعوب العالم العربي وأفريقيا؛ حيث مارس الرجل الأبيض نفس التجريد الممنهج للإنسانية لتبرير سيطرته واستغلاله.
ورغم أن المعطيات تؤكد بوضوح أن الإنسان رغم تحضره يبقى في نهاية المطاف حيوان والأرض غابته واللغة التي يفهمها هي لغة القوة؛ بيد أن المنطلق الإنساني يجب أن يبقى حاضرا فينا دائما. يجب أن نستمر أن نروي شعورنا الإنساني بكل طريقة في مواجهة اليأس والكفر بالمشترك الإنساني. هناك حاجة ملحة إلى التضامن الإنساني لمواجهة هذه السياسات التي تجرّد البشر من إنسانيتهم. علينا أن ندرك أن التجريد من الإنسانية هو عملية متعمدة تهدف إلى تبرير الظلم والقمع، وأنه لا يمكن مواجهتها إلا بالاعتراف المتبادل بإنسانيتنا المشتركة.
وفي هذا السياق، يصبح من الضروري أن نتضامن مع الفلسطينيين، ومع العمال المهاجرين في الخليج، ومع كل من تُسلب حقوقه وإنسانيته في أي مكان في العالم. إن النضال ضد التجريد من الإنسانية هو نضال من أجل بناء مستقبل أكثر عدالة وإنسانية للجميع بغض النظر عن عرقه أو دينه أو خلفيته الثقافية. إلا أن الطريق هذا ليس مفروشًا بالورود، وطريق استرجاع الكرامة لا يأتي إلا بفرض القوة والتضحيات؛ دائمًا وأبدًا. إن استعادة الفلسطينيين لكرامتهم ولإنسانيتهم، هي رحلة طويلة وشاقة تتطلب الإصرار والتضحية. إنها رحلة ضد كل قوى التجريد والتفكيك التي تحاول محو هويات الأفراد والشعوب. وهذا أهم إسقاط نلمسه في آخر فيلم “حياة الماعز”؛ حيث لم تكن رحلة نجيب في استعادة وجوده وكيانه سهلة؛ بل شاقة جدا وتطلبت تضحيات كاد يفقد فيها روحه أكثر من مرة، وفقد فيها رفيقه.
تعليقات
إرسال تعليق