طوفان الأقصى وسرديات الاستعمار: ثلاث معارك حتمية لتحرير فلسطين - محمد الفزاري

 



مقدمة لا بد منها


القضية الفلسطينية من أوضح القضايا، لأنها قضية استعمار لا يختلف عن الاستعمار الأوروبي الذي تعرضت له دول الشرق الأوسط وأفريقيا وجنوب آسيا في الثلاثة قرون الماضية؛ بل أسوأها لأنه استعمار “استيطاني”. هي قضية بشر تم تهجيرهم من بيوتهم واحتلال أراضيهم بالقوة؛ فضلًا عن قتلهم. إلا أن الأيديولوجيا الصهيونية تعمدت استخدام سرديات عديدة لتشتيت الوعي عن قضية الاستعمار، وأهمها “السردية الدينية”، كأرض الميعاد وشرعيتهم في الأرض، بجانب “الحجة الجغرافية” بأنها أرض بلا شعب، وهم شعب مطارد ومظلوم يستحق أن تكون له دولة.


وإذا افترضنا شرعية الادعاء الصهيوني بأحقية الأرض الفلسطينية كونهم أقاموا فيها ممالك يهودية، سقط آخرها في النصف الأول من القرن الثاني الميلادي، قبل قرابة 19 قرنًا؛ فللمسلمين أيضًا بهذا المنطق الحق في العودة إلى الأندلس؛ خاصة أن الوجود الإسلامي في الأندلس انتهى فقط قبل خمسة قرون تقريبًا، وبهذا المنطق فإن جميع الأمم والشعوب تستطيع ادعاء شرعيتها في أراض أخرى.


في الحقيقة التي أكدها المفكر الأمريكي اليهودي نعوم تشومسكي، أن الكيان المحتل الصهيوني هو دولة استيطانية لا تنتمي لهذا العصر؛ بل تنتمي لقرون الاستعمار، والدولة الإسرائيلية أسوأ من نظام الفصل العنصري التي كان يحكم جنوب أفريقيا، لأن الأخير لم يحاول إنهاء وجود الأفارقة السود عبر التهجير أو القتل، ولكن الكيان الصهيوني يحاول بكل الطرق التخلص من الفلسطينيين بشكل نهائي، وهذا ما يفسر عدم التزامه بكل القرارات الدولية والتنازلات العربية.

تاريخيًا، رضخ الموقف العربي الفلسطيني منذ هزيمة 67 للواقع استسلامًا وانهزامًا وضعفًا، ووافق على تقسيم الأرض الفلسطينية التاريخية مع الكيان المحتل؛ بل أيضًا وافق على إقامة دولة فلسطينية على نسبة 42% “فقط” من أرض فلسطين التاريخية! ورغم ذلك فالمحصلة النهائية الحالية أن خيار حل الدولتين لم يعد قابلاً للتطبيق بسبب احتلال إسرائيل معظم الأراضي الفلسطينية؛ فلم تعد هناك أرض تقريبًا لإنشاء دولة فلسطينية. كذلك أيضًا خيار حل الدولة الواحدة الديمقراطية غير متاح بسبب نظام الفصل العنصري الذي يمارسه الكيان، فضلاً عن قانون يهودية الدولة الذي أقره الكنيست الإسرائيلي عام 2018.

 

لديّ قناعة تامة أن فلسطين ستتحرر يومًا ما، وسينتهي الاستعمار مثله مثل أي استعمار آخر تعرض له الشرق الأوسط

 

وإذا أردنا فهم الكيان المحتل الإسرائيلي ومشروعه الصهيوني الاستعماري، يجب أن نعود للخلف ونحلل الخطاب الاستعماري ونظرياته المضادة. كانت بذور الفكر الإمبريالي عاملاً موجهًا للاحتلال الاستعماري وتبرير الهيمنة الأوروبية لاختراق سيادة البلدان الأخرى. كذلك -وفقًا لإدوارد سعيد- كان الاستشراق واحدًا من القوى الدافعة وراء الاستعمار الإمبراطوري الأوروبي، أو بمعنى آخر الجوهرية الثقافية، مبنيًا على الصور النمطية التي وصفت الشرق على أنه غير ناضج وبحاجة إلى رعاية، مما أدى إلى إيجاد ضرورة أخلاقية للدول الغربية “المتحضرة” للتدخل، وكان هناك آراء مبنية على افتراض تفوق العرق الأبيض، التي تعد نوعًا من العنصرية.


في خطابه أمام اللجنة الملكية الفلسطينية، وذلك في معرض الحديث عن الشعب الفلسطيني وحقه في العودة إلى أرضه عام 1937، قال ونستون تشرشل، أشهر رئيس وزراء بريطاني ومن الأكثر الشخصيات البريطانية تأثيرًا، والفائز بجائزة نوبل للأدب: “إني لا أعتقد أن كلبًا على مزود يستطيع الادعاء بأن له حقًا نهائيًا في مزوده مهما طالت إقامته فيه، إني لا أعترف له بهذا الحق، إني لا أعترف مثلاً أن ما أصاب الهنود الحمر في أمريكا أو الشعب الأسود في استراليا خطأ فاحش، إني لا أعترف أن ما أصابهم كان سوءً لمجرد أن جنسًا أقوى، جنسًا أعلى، أو لنقل جنسًا أكثر حكمة قد حل محلهم”. كانت لدى تشرشل إيمان قوي بوجود تسلسل هرمي عنصري، يعطي الحق في الاستعمار ويشرعن كل تصرفاته.

 

***

 

لديّ قناعة تامة أن فلسطين ستتحرر يومًا ما، وسينتهي الاستعمار مثله مثل أي استعمار آخر تعرض له الشرق الأوسط؛ خاصة بسبب فشل حل الدولتين نتيجة التعنت الصهيوني ورغبة الاستمرار في مشروعه الاستيطاني، كذلك بسبب عدم إمكانية قيام دولة واحدة تجمع اليهود والفلسطينيين، لأنها تتعارض مع الأيديولوجيا الصهيونية. ستتحرر فلسطين بثلاث معارك، وكل واحدة منها لا تقل أهمية عن الأخرى:

 

معركة السلاح والمقاومة من أبنائها.

معركة الدبلوماسية والضغوطات الاقتصادية من قبل الدول المؤمنة بالقضية والداعمة لها.

معركة الوعي عبر مواقع التواصل الاجتماعي والمقاطعة والإضرابات.

 

 

المعركة الأولى: المقاومة المسلحة

في سياق حركات التحرر الوطني في القرن العشرين، يبرز تاريخ ملحمي يؤكد على حقيقة مهمة: “ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة”. يظهر من خلال دراسة الحركات التحررية المختلفة، بما في ذلك حركة التحرر الوطنية في إيرلندا من الإمبراطورية البريطانية الاستعمارية التي ذاتها أهدت بلا حق أرضًا لا تملكها للمشروع الصهيوني، أن الشعوب لن تحقق حريتها إلا عبر مقاومتها الشجاعة والمستميتة ضد الاحتلال والظلم.


يُؤكد تاريخ حركات التحرر الوطني في الجزائر وليبيا والهند ودول أفريقية وآسيوية عديدة، أن استعادة الحقوق والكرامة للشعوب تتطلب تحركًا قويًا ومستميتًا. ورغم أن القوة لا تعني دائمًا استخدام السلاح، إلا أنها تعبر على الدوام عن إصرار وقوة الروح التي تتجلى في المقاومة الشعبية. إن هذه الحقيقة تظهر بوضوح في مسيرة شعوب كثيرة حول العالم استردت استقلالها وكرامتها من خلال النضال والمقاومة ضد القمع والظلم. من يستطيع أن ينكر أن الصين لم تستعد هونغ كونغ إلا عندما فرضت قوتها في الساحة الدولية؛ فلو افترضنا خلاف ذلك: دولة صينية بلا سيادة ولا قوة عسكرية واقتصادية مؤثرة، هل كانت الصين تستطيع استرجاع هونغ كونغ عبر القانون الدولي فقط؟!

 

المعركة الثانية: الدبلوماسية والضغوط الاقتصادية

لا أحد يستطيع إقناعي أن هذا العالم تحكمه القوانين الدولية أكثر من نواميس الطبيعة؛ قانون الغاب، قانون القوة. القوي لا يفرض فقط هيمنته للحفاظ على مصالحه؛ بل أيضًا يفرض معايير الحق والباطل، وأنت أيها الضعيف لا خيار أمامك؛ إما الرضوخ استسلامًا؛ مجبرًا أم تماهيًا، أو أن تتحمل العواقب!


تاريخ الأمم المتحدة شهد سلسلة من القرارات التي أدانت صراحة التصرفات والسياسات التي اعتمدها الكيان المحتل في فلسطين. على مر العقود، أصدرت الجمعية العامة ومجلس الأمن الدولي قرارات متعددة تدين الكيان الصهيوني، وتطالب بالامتناع عن أفعال تعتبر غير قانونية ومعادية للسلام. على سبيل المثال؛ اعتمدت الجمعية العامة عام 1947 قرارًا (القرار 181)، حول تقسيم فلسطين إلى دولتين، لكن إسرائيل أعلنت استقلالها عام 1948 دون الامتثال لهذا القرار. كما أصدرت الأمم المتحدة في عدة مناسبات قرارات تدين الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية عام 1967 وتطالب بانسحابها. في عام 1975، أصدرت الجمعية العامة قرارًا (القرار 3376) يعتبر إسرائيل دولة احتلال استيطاني، ويؤكد حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير. وفي العقد الأخير، أدانت الأمم المتحدة بشدة الإجراءات الإسرائيلية؛ مثل بناء المستوطنات وفصل العائلات الفلسطينية ومصادرة الأراضي.


رغم هذه القرارات، استمرت إسرائيل في مشروعها الصهيوني الاستيطاني؛ ما يُظهر عدم التزامها بالقانون الدولي وتصديها للمطالب الدولية بالامتثال للقرارات. هذا السلوك المتعنت لا يعكس إلا فكرة واحدة: القانون يستمد قوته وصلاحيته من قوة الجهات التي تتبناه، وليس من شرعيته، ويتهاوى أمام القوة الأقوى؛ فهذا هو قانون الغاب حرفيًا. ومع ذلك؛ فرغم الفشل الواضح للمجتمع الدولي في القضية الفلسطينية بسبب استبداد الغرب -وخاصة أمريكا- وقرار مؤسساته؛ بيد أن هذا السلاح يبقى مهمًا وفاعلاً لو تم تفعيله بشكل جاد من قبل الدولة الداعمة بشكل جماعي.

 

المعركة الثالثة: الوعي

الإنسان بتصرفاته ومواقفه في نهاية المطاف هو نتاج وعيه، وهذا الوعي مرتبط بشكل وثيق بالمعلومة التي يتلقاها. غُيب الكثير من الشعوب وخاصة الغربية بشكل متعمد عن قضايا كثيرة، ومن ضمنها القضية الفلسطينية عبر بروباجاندا ممنهجة. يقول التاريخ أيضًا: إن المستعمِر دائمًا ما كان يتهم أي مقاومة شعبية بالإرهاب والتخريب والقرصنة، ودائمًا ما كان يشاركهم في هذا الفعل أذنابهم.


وإذا كان غزو العراق أظهر لنا عوار المجتمع الدولي وضعف مؤسساته بشكل فجّ؛ فإن طوفان الأقصى بجانب تأكيده على ذلك أظهر لنا عنصرية الغرب؛ وخاصة حكوماتهم ومؤسساتهم الإعلامية العريقة التي تفسخت بشكل فاضح من كل قيم وأدوات العمل الإعلامي. فضحت الإبادة في غزة سوءاتهم وكشفت تناقضاتهم. ولذلك تعد مواقع التواصل الاجتماعي سلاحًا فعالاً في تغيير هذا الوعي وتوضيح الحقيقة، وإزالة غبار البروباجاندا الإمبريالية عن وعي الشعوب الغربية بسبب تحررها من مركزية القرار التحريري الذي مارسته مؤسسات الإعلام الرسمية منذ عقود، تماشيًا مع الأجندة السياسية والاقتصادية لملاكها، مما ساهم بشكل كبير في بناء سردية مغايرة عن الواقع ضد الفلسطينيين في أذهان الغربيين. لذلك فوعي هذه الشعوب سينعكس إيجابًا بلا شك مع مرور الوقت على البنية السياسية والمؤسساتية في دولهم حال تلقيهم بشكل مستمر سرديات تتعارض مع السرديات الإمبريالية

***

 

حول المقاطعة والإضراب

المقاطعة والإضراب أسلحة فعالة ضمن المعركة الثالثة، لأن أهميتها ليست مقتصرة على الضغوط الاقتصادية؛ بل بتأثيرها على الوعي؛ ولذلك وضعتها ضمن المعركة الثالثة وليس الثانية. لأني مؤمن أن تأثيرها الاقتصادي سيبقى دومًا محدودًا مهما تضاعف حجم المقاطعة والإضراب؛ بل يمكن الالتفاف عليها من قبل ملاك رؤوس الأموال أيضًا. بيد أن هذه الأسلحة لها دور فعال في إبقاء القضية حية في وجدان كل إنسان سوي يناصر القضية، الصغير قبل الكبير، لا كونها قضية عربية ولا إسلامية؛ بل إنسانية بحتة

 

ما زالت عقدة الذنب تلاحق أوروبا؛ وبالتحديد ألمانيا، نتيجة ممارساتهم ضد اليهود؛ بيد أنهم ما زالوا يصرون أن يلقوا بتبعية معاداتهم للسامية على العرب والفلسطينيين

 

المقاطعة والإضراب هما فكرتا احتجاج في هذا السياق على مثالب المجتمع الدولي وضعف مؤسساته، والقدرة على الاعتراض بشكل حر في قول “لا” في وجه القباحة الامبريالية. وخير تمثيل لذلك التضامن الأممي في الدعوة للإضراب العالمي من أجل غزة في 11 من ديسمبر 2023. ليس المهم مدى تأثيرها الاقتصادي قدر تأثيرها المعنوي ومستوى الوعي الذي يمكن أن يتحقق من خلال هذا الفعل السلمي. استطاع أهالي غزة وفصائل المقاومة بصمودهم وتسببهم في انهيار السرديات الصهيونية أن تدفع الشعوب على اختلافها نحو تضامن أممي لم يألفه العالم وخاصة العالم العربي منذ عقود.


فلم يعد يوجد إنسان عاقل موضوعي يستطيع إنكار أن إسرائيل هي كيان فصل عنصري محتل استيطاني استعماري، بعيد كل البعد عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، إذا توفر له الوعي الكافي حول القضية الفلسطينية؛ فهذا الكيان الصهيوني تأسس على مقابر من الإبادات الجماعية للفلسطينيين، على سبيل المثال لا الحصر: مجزرة دير ياسين (1948)، مجزرة صبرا وشاتيلا (1982)، ومجازر الإبادة في غزة (2008، 2012، 2014، 2021(، وآخرها مجزرة 2023 التي تلت طوفان الأقصى

 

حول الموقف الغربي

ما زالت عقدة الذنب تلاحق أوروبا؛ وبالتحديد ألمانيا، نتيجة ممارساتهم ضد اليهود؛ بيد أنهم ما زالوا يصرون أن يلقوا بتبعية معاداتهم للسامية على العرب والفلسطينيين بالتحديد؛ بل ما زال الغرب يمارس معاداته للسامية عبر دعمه وإصراره ببقاء الكيان الإسرائيلي، وكأنه يقرّ بأنه يجب بقاء اليهود بعيدًا عن أوروبا، حتى لو تسبب الأمر في قتلهم؛ فهو لا يختلف عن ممارساتهم العنصرية التطهيرية ضد اليهود، التي كانت ذروتها عند النظام النازي التي أفاد منها بكل الأحوال المشروع الصهيوني في دفع اليهود للهجرة إلى فلسطين، وكذلك أفاد منها المشروع المعادي للسامية للتخلص من يهود أوروبا، وأكبر مثال على ذلك “وعد بلفور” الذي كان صاحبه معاديًا للسامية.


هذا فضلاً عن المصالح التي يوفرها لهم هذا الكيان الصهيوني الاستيطاني الاستعماري، التي هي فوق كل الاعتبارات الإنسانية وحقوق الإنسان؛ فهل يوجد ما هو أوضح من الموقف الأمريكي الذي كان دائمًا ما يصدر خطاب “حقوق الإنسان” في إعطاء الضوء الأخضر لإسرائيل لارتكاب مجازر بحق أهالي غزة، التي فاق عدد ضحاياها حتى وقت كتابة هذه الأسطر 17 ألف ضحية، كمحاولة يائسة من إسرائيل في رد اعتبارها بسبب فضيحة طوفان الأقصى.


وهل يوجد أيضًا أوضح من موقف الرئيس الأمريكي “بايدن” الذي أكد فيه أنه صهيوني، حتى لو لم يكن يهوديًا؛ بل أيضًا أكد أنه لو لم تكن هناك إسرائيل لعملوا على إقامتها. ولا يمكن فهم ذلك إلا من خلال المنظور الإمبريالي الاستعماري؛ فإسرائيل بالنسبة لأمريكا، بجانب أسباب أخرى أيضًا، قاعدة عسكرية تغني أمريكا عن العديد من القواعد وحاملات السفن؛ فهي القوة الأكبر للولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وهذا أيضًا ما أكده “بايدن” نفسه عام 2007 عندما كان عضوًا في مجلس الشيوخ في مقابلة تلفزيونية، وأضاف: “تخيلوا ظروفنا في العالم بدون وجود إسرائيل، كم عدد السفن الحربية التي ستكون هناك، كم عدد الجنود الذين سيتمركزون هناك”! والموقف الأمريكي ليس مستغربًا؛ ليس لأنه فقط يتناسب والمصالح الأمريكية، ولكن هناك مشترك تاريخي في طبيعة قيام الدولتين، الأمريكية والإسرائيلية؛ فقد قامت كلتاهما على الاستيطان والتطهير العرقي ضد السكان الأصليين.

 

حول طوفان الأقصى

لا يوجد إنسان سوي يقبل استخدام العنف بكل أشكاله ضد المدنيين في أي شكل من أشكال الصراعات الجيوسياسية؛ وهذا بكل تأكيد ينسحب على مدنيي الكيان المحتل الصهيوني. بيد أنه أيضًا هناك سؤال يطرح نفسه: أليس هذا “المدني” ترسًا صغيرًا في ترس أكبر؛ النظام الصهيوني الغاشم؛ سواء بكونه جنديًا احتياطيًا ممن هم بين 18-45 من النساء والرجال، أو بقبوله وتأييده لهذا الاحتلال بتواجده! مع الاستثناء من هذا الخطاب من هم دون السن القانوني؟


ماذا يُتوقع من شعب يعيش قهر الاحتلال والقتل وسياسات العنصرية بشكل يومي؛ وفي ذات الوقت يؤكد الطرف الآخر بشكل قاطع رفضه وجود دولة فلسطينية، وأن الكيان المحتل هو دولة يهودية فقط. وهذا في جوهره، يعني أن الأفراد غير اليهود لن يحصلوا أبدًا على حقوق المواطنة المتساوية. أما بالنسبة لأهل غزة؛ فلا توجد كلمات تصف وضعهم بسبب الحصار القاسي الذي فرضه الاحتلال الصهيوني عليهم لأكثر من 16 عامًا، عندما قرر تقييد حركتهم وسجنهم وحصارهم في أكبر سجن مفتوح حول العالم.

 

هذا المحتل الغاشم بعقيدته الصهيونية الاستعمارية القائمة على الفصل العنصري هو من أوصل القضية لطريق مسدود؛ فلم يترك للفلسطينيين خيار الدولة الواحدة ولا خيار الدولتين؛ رغم أن كلا الحلين في الأساس غير عادل، لأن إسرائيل في الأصل دولة احتلال استعماري مثلها مثل الاستعمار الفرنسي للجزائر، والاستعمار الإيطالي لليبيا، والبريطاني لعدن. لذلك فالمحتل هو من يتحمل مسؤولية إيصال القضية الفلسطينية إلى هذا المستوى من العبثية؛ فمآلاته بكل تأكيد ضحايا أكثر من المدنيين من كلا الطرفين.


من جانب آخر، يقول التاريخ إن الكيان المحتل دائمًا ما كان يقدم سرديات كاذبة حول قضايا عديدة، ثم يعود مجبرًا ليعترف بخلاف سرديته الأولى. ومن ذلك عندما أنكر في بداية الأمر مسؤوليته عن مجزرة قانا في مخيم تابع للأمم المتحدة في جنوب لبنان عام 1996، والتي ذهب ضحيتها أكثر من 250 شخص معظمهم من الأطفال والنساء. كذلك قضية اغتيال الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة؛ حيث أنكرت إسرائيل في بداية الأمر مسؤوليتها، ولكن التحقيق الأممي أكد مسؤوليتهم مما دفعهم للاعتذار. هما مجرد مثالين من قائمة أمثلة عديدة لا يتسع المقام لذكرها

 

القضية الفلسطينية قضية إنسانية عادلة مهما اختلفت مع أهلها أو فصيل منهم. وما يحدث في فلسطين ليس صراعًا؛ بل هو احتلال واستعمار استيطاني


من هذا المنطلق كيف يمكن تصديق السرديات الإسرائيلية حول كل أحداث طوفان الأقصى التي حاولت من خلالها شيطنة المقاومة بكل أدواتها الإعلامية والدبلوماسية، بمساندة الدول الغربية وخاصة أمريكا. وحتى كتابة هذه الأسطر تبين لنا حتى الآن سقوط سرديتين؛ فلا يوجد أطفال تم قطع رؤوسهم، ولا نساء تم اغتصابهن. ولذلك سردية تعمد مسلحي حماس قتل مدنيين إسرائيليين تحتاج إلى التوقف عندها؛ خاصة أن هذا الفعل يتعارض بالكامل مع خطاب المقاومة ومع طريقة تعاملهم مع الأسرى والمختطفين الإسرائيليين، والذي رآه العالم بأم عينه.

 

حول الإسلام السياسي

في مقالة سابقة لي بعنوان “القضية الفلسطينية.. بين التدويل الإسلامي والإنساني، كان موقفي حول تدويل القضية الفلسطينية كقضية إسلامية هو الآتي: “بعد ظهور الصحوة الإسلامية وانتشار جماعات وتنظيمات الإسلام السياسي في الوطن العربي بشكل خاص في العقد السابع من القرن الماضي، بدأت القضية الفلسطينية تأخذ منحى آخر بعيدًا عما كان يجب أن يكون عليه. بدأت هذه الجمعيات والتنظيمات في تدويل القضية كقضية إسلامية محورية، متجاهلين عمدًا أن من كان يسكن في الأرض الفلسطينية قبل الاحتلال، ليس المسلمين فحسب؛ بل كانت هناك أعراق وديانات وطوائف عدة مثل اليهود والأرمن والأقباط والبهائيين والتركمان والأفارقة والأحمديين والدروز والغجر والسامريين والسريان. إن نزع القضية الفلسطينية من حجمها الطبيعي كمعاناة إنسانية وانتهاكٍ صارخ لحقوق بشر كانوا يقطنون منطقة جغرافية تعرف بفلسطين، وحصرها في إطار ضيق كصراع ديني بين اليهود والمسلمين أدى لوأد القضية وتغييبها.


ولهذا أرى أن نجاح القضية الفلسطينية في جانبها السياسي يكون بتدويلها كصراع بين صاحب أرض، وهو الإنسان الفلسطيني بمختلف دياناته وطوائفه وأعراقه وأيديولوجياته، وصهيوني غاشم محتل للأرض. بالإضافة إلى إمكانية تدويلها كمعاناة إنسانية لاستعطاف الآخر الذي يجهل القضية أصلاً. أما ما يحدث الآن، والذي بدأ مع بداية الصحوة عندما تم تصدير القضية دوليًا كأنها صراع بين ديانتين، اليهودية والإسلامية؛ فهو من مصلحة المحتل، لأن التاريخ يثبت بنسبة كبيرة صحة ادعاءاته اليهودية (أعني حقيقة وجوده التاريخي في المنطقة).  إن كل ما فعله الإسلام السياسي من تحديد للقضية وإخراجها من حيزها الطبيعي وحصرها في نقطة صراع تاريخي خدم المحتل بشكل كبير؛ حيث عمل الاثنان، المحتل والإسلام السياسي، بتشتيت أنظار المجتمع الدولي والمهتمين والمتابعين للقضية في معمعة التاريخ عن أصل المشكلة؛ وهو الاحتلال الغاشم”.


ولذلك فلو فهم الإسلام السياسي هذه الحقيقة لتغير واقع القضية للأفضل. ورغم أهمية الدين والسردية الإسلامية في تحشيد الجماهير المسلمة؛ إلا أن محاولة أسلمتهم للقضية فصل القضية عن حيزها الوجداني الإنساني الأصيل، الذي من الطبيعي أن يتعاطف معه كل إنسان سوي لا يرضى الاحتلال والتشريد والقتل؛ فضلاً عن التطهير العرقي والفصل العنصري. كذلك فلنتخيل الآتي: “حماس” تنظيم مقاومة وطني لا يستند على أيديولوجيا إسلام سياسي؛ فكم من الاتهامات، التي سيستخدمها الكيان المحتل ضدها ليبرر انتهاكاته ومجازره ستسقط!

 

حول الصهيونية العربية

إذا كنت لا تؤمن بالإسلام، هذا خيارك الشخصي وأنت حر: حرية المعتقد مكفولة. إذا كنت غير منتم لأفكار الإسلام السياسي لا تنظيميًا ولا فكريًا، أيضًا هذا خيارك الشخصي وأنت حر؛ حرية الفكر مكفولة. بيد أن محاولتك الخلط ما بين خياراتك الشخصية وواقع المقاومة الفلسطينية؛ المؤسلمة بالتحديد، واستخدام ذلك كحجة لنزع شرعية وأحقية المقاومة من أصحابها؛ فقط لأنهم مسلمون أو مؤدلجون بالإسلام السياسي؛ عفوًا فهذا ضرب من الغباء والسطحية في التفكير وجهل بالتاريخ والسياسة؛ فضلاً عن الجهل بتاريخ القضية الفلسطينية.


رفضك للإسلام السياسي والدين الإسلامي ذاته لا ينزع شرعية وأحقية المقاومة من أي شخص. المقاومة فعل يعرف بشرعية القضية لا شخوصها. القضية الفلسطينية قضية إنسانية عادلة مهما اختلفت مع أهلها أو فصيل منهم. وما يحدث في فلسطين ليس صراعًا؛ بل هو احتلال واستعمار استيطاني له جذور تاريخية ممتدة في المنطقة والعالم بشكل عام، وما حدث بعد تاريخ 7 من أكتوبر ليس حربًا؛ بل إبادة جماعية لها جذور في الفكر الصهيوني، والكيان المحتل قائم على فكرة التهجير والإبادة منذ تأسيسها. وما حدث يوم 7 من أكتوبر ليس إلا حلقة من حلقات سلسلة المقاومة الفلسطينية التي يمتد تاريخها لأكثر من 100 عام.


لذلك فكل إنسان يناصر أو يدافع عن القضية الفلسطينية مهما اختلفت معه فكريًا، وهذا من حقك؛ فهو يناصر قضية عادلة واضحة المعالم، إنسانيًا وتاريخيًا وقانونيًا. وكل فلسطيني يقاوم المحتل بأي شكل من الأشكال، مهما اختلفت معه فكريًا، وهذا من حقك أيضًا؛ هو مقاوم ولا يمكن أن تنزع عنه هذا الحق؛ فهو اكتسب شرعية هذه الصفة من شرعية القضية ذاتها؛ فضلاً عن فعل المقاومة ذاته

 

فلسطين قضيتي

فلسطين قضية إنسانية عادلة، وستبقى دومًا قضية إنسانية عادلة مهما تغيرت الظروف، ومهما اختلفت مع أهلها أو فصيل منهم. ولأنها قضية إنسانية، ولأنها قضية كرامة إنسان؛ ففلسطين قضيتي باسم الإنسانية والقانون الدولي والشرعية الدولية لحقوق الإنسان.




*نشر هذا المقال في مواطن 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة