مطلب الدولة العلمانية ليس رفاهية.. الواقع والتحديات - محمد الفزاري

من إيجابيات العلمانية ، وليست من مثالبها كما يحاول وصفها أصحاب الآيديولوجيات الدوغمائية، لا يوجد لها تعريف دقيق متفق عليه بقدر ماهي سيرورة متواصلة تتغير حسب الزمان والمكان؛ بيد أن للعلمانية ركائز أساسية يتفق عليها كل دعاتها، وانتفاء أحدها يعني بالضرورة انتفاء وجود العلمانية. ويمكن أن نستشف أهم تلك الركائز من التعريفات التالية:

فلسفيًا، تعني العلمانية -بفتح العين- الاهتمام بكل ما له علاقة ومنتمي إلى العالم والدنيا دون النظر إلى العالم الروحي الميتافيزيقي، بخلاف ما يعتقد به بعضهم عندما يربط ويحصر مفهوم المفردة بالعِلم فقط. واصطلاحًا، فأبسط تعريف لها هي شكل من أشكال إدارة الدولة الذي يقوم بفصل السلطة السياسية عن السلطة الدينية ورجالاتها ويكون جميع المواطنين بمختلف أعراقهم ومعتقداتهم متساوين أمام القانون في الواجبات والحقوق بحكم المواطنة.

ويقول ديفيد بولوك، عضو في مجلس أمناء الرابطة البريطانية الإنسانية، في عنوان مقالته في الجارديان: “العلمانية هي الحياد تجاه الدين كله بما في ذلك الإلحاد”. وهذا يعني أن العلمانية ليس بالضرورة هدفها محاربة الدين، مثلما يفهمها بعضهم، بقدر ما هو تحييد للدين ورجالاته عن السياسة وشكل إدارة الدولة والوقوف في مسافة واحدة من جميع المواطنين باختلافاتهم.

وفي حوار خاص مع قناة العربية، يعرف الرئيس التركي أردوغان العلمانية بأنها: “تعني التسامح مع كافة المعتقدات من قبل الدولة، والدولة تقف من المسافة نفسها تجاه كافة الأديان والمعتقدات.. هل هذا مخالف للإسلام؟ ليس مخالفا للإسلام؟ ولكن هناك من يحاول أن يؤول ذلك بتأويل آخر ويعتبر العلمانية هي معاداة الدين أو أن العلمانية هي اللادينية. نحن قلنا لا .. العلمانية هي فقط أن تضمن الدولة الحريات لكافة المعتقدات، وأيضا أن تقف بالمسافة نفسها حيالها وهذا هو مفهوم العلمانية عندنا. نحن لا نعتبر العلمانية معاداة للدين أو عدم وجود الدين، وقلت إن الفرد لا يمكن أن يكون علمانيا، والعلمانية ليست ديانة، الدولة هي التي يمكن أن تكون علمانية.. العلمانية هي ضمان حريات كافة الأديان والمعتقدات.. العلمانية توفر الأرضية الملائمة لكافة الأديان ممارسة شعائرها الدينية بكل حرية حتى الملحدين”. وهذا التعريف هو ذاته الذي طرحه على إخوان مصر بعد زيارته مصر إبان حكمهم. 

وفي وقتنا الحالي، معظم دول العالم وفي مقدمتها الدول الديمقراطية الكبرى تطبق العلمانية في شكل إدارة الدولة. ورغم أن مفردة العَلمانية لم تذكر حرفيًا في كثير من دساتير هذه الدول إلا أنها لم تحدد في الوقت ذاته دينًا معينًا للدولة، وهذا أول وأهم مبدأ تقوم عليه العَلمانية. بيد أن هناك جدلًا ولغطًا كبيرًا يدور حول مصطلح “العَلمانية” وتطبيقاتها في العالم الإسلامي العربي بشكل عام والخليجي بشكل خاص. وبسبب حساسية وقعها المفرط على المتلقي بات كثير من المفكرين والكتاب العرب أصحاب التوجه الليبرالي والعَلماني يتجنب في أحيان التصريح بها ويستعير بدلًا منها مفردة“المدنية” مخافة الصدام أو بهدف محاولة تعزيز فائدة تطبيقات الدولة العَلمانية عند المتلقي دون أن تكون مفردة العَلمانية عائقًا أمام ذلك.

الواقع

بعد الإخفاق المرير للآيديولجيات القومية والشيوعية وشعارتها الخاوية التي قامت بشكل أكبر على الغوغائية وليس البعد الإبيستمولوجي، خاصة بعد هزيمة 67 والنكسة الجيوسياسية والمعنوية التي صاحبتها مع استمرار الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وتوسعه المستمر، نتج عن ذلك صحوة إسلامية وظاهرة تدين سلفي وراديكالي بصفة عامة، وظهور آيديولوجيا الإسلام السياسي كبديل لتلك الآيديولوجيات السابقة التي يزعم منظروها وساستها أنها الحل الأنجع لجميع مشاكلنا وأزماتنا العربية الإسلامية.

ولم يكن الخليج العربي بمعزل عن كل هذه التطورات وخاصة ونحن نعلم أن أهم وأكبر دولة خليجية هي السعودية التي تعتبر المصدِّر الأكبر للفكر السلفي. هذا الواقع أدى إلى انسداد إبستمولوجي شعبي على مستوى العقل الجمعي وبات يرفض أو يتوجس من كل ما هو غربي تحت حجة نظرية المؤامرة أو في أحايين كثيرة مجرد جهل ونقص في المعلومة كما يحدث مع مفردة العلمانية . وفي الحقيقة أسهم زاعمو النهج العَلماني في غرس الكثير من المغالطات في ذهنية رجل الشارع البسيط المتمسك والمدافع عن دينه حول ماهية العلمانية وتطبيقاتها بسبب ضعفهم الإبستمولوجي حول النهج الذي يزعمونه، واعتمادهم على الغوغائية في الطرح لا يختلف عن غوغائية الكثير من القوميين الشيفونيين والشيوعيين الدغمائيين سابقًا.

 ولهذا، فمن أهم التحديات التي يواجهها المواطن الخليجي العلماني الحقيقي الذي ينطلق من منهجية معرفية راسخة هي قضية عدم وجود الثقة بينه والمتلقي.لا سيما في وجود تقارب وتقاطع مصالح بين السلطات السياسية والدينية تصل قمة ذروتها في الحالة السعودية كزواج مقدس بين السلطتين. كل هذا أدى إلى وجود مساحات كبيرة يتحرك فيها رجل الدين السلفي بحرية لنشر أفكاره وآرائه لا سيما عبر الإعلام.

ومن ضمن الأخطاء والمعضلات التي وقع فيها بعض من يحملون رايات المشاريع المدنية والتقدمية من مفكرين وكتاب عندما وضعوا خيارهم وولاءهم بين فكي كماشة، بين ثنائية الدولة الدينية والعسكرية (أو دولة الفرد أو الأسرة)، والذي حسب منظورهم يقع تفضيلهم واختيارهم على أقل وأخف الضررين، الخيار الثاني. ولد هذا إلى أزمة ثقة وقلة مصداقية بينه وبين المواطن البسيط الذي لا يهمه إلا المطالبة بأبسط حقوقه.

هذا على مستوى العقل الجمعي الشعبي، بيد أن هناك أيضًا إشكالية وتحديًا آخر تواجهه الجماعات العلمانية في الخليج، وهو عدم وجود مشاركة سياسية فعلية عبر وجود أحزاب سياسية تنطلق من رؤى ومناهج وآيديولوجيات من ضمنها العلمانية ، باستثناء تجربتي الكويت والبحرين. لذا فالمقصود هنا بالجماعات العلمانية ليس أكثر من أفراد يتحركون بشكل فردي ويتقاطعون بقناعات متماثلة أو متقاربة. وعدم السماح بتأسيس والعمل في أحزاب بهدف المشاركة السياسة أسهم بشكل كبير في تقليل أو حتى عدم تأثير وفعالية الفرد العَلماني في المجتمع بأفكاره فضلًا عن قدرة تموضعه المؤثرة وفعاليته في الحكومات، إذ إن الأحزاب بطريقة عملها التنظيمي الممنهج القائم على برامج سنوبة أكثر قدرة على الضغط والتأثير.

أضيف، أن هذا الواقع أدى إلى وجود ديمقراطية شكلية على مستوى البرلمانات في دول الخليج لا تتجاوز الصندوق -على الرغم أن معظم هذه البرلمانات أيضًا هي شكلية فقط وتفتقر للصلاحيات وهذا موضوع آخر- حيث إنها قائمة على الأكثرية والأقلية الطائفية والقبلية وليس الأكثرية والأقلية السياسية. نتيجة عدم وجود الأحزاب السياسية وكذلك عدم وجود عَلمانية في شكل إدارة الدولة بتبنيها دين ومذهب يمثلانها.

المستقبل

في حوار مع صحيفة (لوموند) الفرنسية عن تحول مسار حزب النهضة التونسي القائم على فلسفة الإسلام السياسي، صرح راشد الغنوشي زعيم النهضة وأحد أهم منظري الإسلام السياسي في تونس والعالم الإسلامي قائلًا: “نخرج من الإسلام السياسي لندخل في الديمقراطية المسلمة. نحن مسلمون ديمقراطيون، ولا نعرف أنفسنا بأننا إسلام سياسي”. وأكد الغنوشي أن النهضة “حزب سياسي، ديمقراطي، ومدني له مرجعية قيم حضارية مسلمة وحداثية”. وأضاف: “نريد أن يكون النشاط الديني مستقلًا تمامًا عن النشاط السياسي. فهذا أمر جيد للسياسيين لأنهم لن يكونوا مستقبلًا متهمين بتوظيف الدين لغايات سياسية. وهو جيد أيضًا للدين حتى لا يكون رهين السياسة وموظفًا من قبل السياسيين”.

نلاحظ أن الإسلام السياسي عندما كان في صف المعارضة كان يغطي فجاجته بالمظلومية وكان يكابر ويضع نفسه فوق الانتقاد لأنه الممثل الأعلى للدين والناطق به. لكن عندما أصبح في وضع الحاكم في أكثر من جغرافيا، بانت نواقضه وظهرت فجاجته وتأخره وانفصاله الإبستمولوجي والكوسموبوليتي؛ فكان لابد أن يلعب السياسة بانتهازيتها ويتنازل عن كل مبادئ “الإسلام السياسي”، ليبقى متشبثًا لأطول فترة ممكنة.

ذكرت أن أهم التحديات التي يواجهها الفرد العَلماني يمكن تصنيفها على مستويين: الأول إبستمولوجي، والثاني سياسي. المثال الذي ذكرته يعطينا صورة ومقاربة أن التغيير لا يمكن أن يحدث قبل أوانه، قبل أن تتوافر كل الأسباب والظروف الدافعة للتغيير. والقرار الذي اتخذه حزب النهضة ليس بالقرار السهل الذي من الممكن أن نعتبره مجرد مناورة سياسية ليس إلا. هي خطوة كبيرة باتجاه العلمانية -عدوهم اللدود- ولو لم يصرحوا بذلك.

 بتفاؤل مفرط هذا التغير سيكون مؤثرًا في قادم السنوات على الإسلام السياسي في الوطن العربي والإسلامي بشكل عام لأنه سيقلل من وطأتهم على دعاة العلمانية والأحزاب العلمانية . وسيجد المواطن نفسه أمام أحزاب تتقارب في الطرح لا يوجد من يدعي الناطق باسم الدين والحقيقة الدوغمائية المطلقة، وهذا سيصب في مصلحة الجماعات العلمانية وزيادة فرصة تموضعها داخل الأنظمة السياسية، وهذا ما عنيته بالبعد الإبستمولوجي.

وأضيف بتفاؤل مفرط آخر أيضًا، هذا التحول قد يكون مؤثرًا حتى على مستوى القيادات في الخليج الذي سيدفعهم للتغيير وعلمنة الدولة، خاصة إذا اجتمعت ظروف أخرى مثل الضغط الشعبي المنظم للمطالبة بعمل إصلاحات سياسية تصل على مستوى عَلمنة الدستور، ليبقى أيضًا متشبثًا لأطول فترة ممكنة، وهذا هو البعد السياسي.

مطلب العلمانية ليس رفاهية بل حاجة وضرورة لتأسيس دولة المواطنة التي يكون فيها جميع المواطنين بمختلف أعراقهم ومعتقداتهم متساوين أمام القانون في الواجبات والحقوق. العلمانية حاجة وضرورة لإنهاء الصراعات السياسية القائمة على الاختلافات الدينية والمذهبية. العلمانية ليست خيارًا مثاليًّا، بل هو الخيار الأمثل وهذا ما يثبته الواقع. 

*الجزء الأكبر من فقرات هذه المقالة سبق نشره في مقالة سابقة للكاتب بعنوان: الجماعات العلمانية في الخليج العربي أي واقع وأي مستقبل؟

مقدمة العدد السابع والأربعون – مجلة مواطن

رئيس التحرير

محمد الفزاري



*رابط المقالة في مواطن

تعليقات

المشاركات الشائعة